يشهد قطاع الاتصالات تحولا جذريا مع ظهور تقنيات جديدة ونماذج أعمال تعيد رسم خريطة القطاع. وتعد تقنيات الجيل الخامس للاتصالات المحمولة، والحوسبة السحابية، وشبكات الاتصالات اللامركزية، وخدمات الشبكات الافتراضية، والذكاء الاصطناعى من بين التقنيات التى تقدم خدمات مبتكرة للمشتركين وفرص عمل جديدة لشركات الاتصالات الكبيرة والصغيرة على حد سواء. ولكن فى حين أن الابتكارات الجديدة يمكنها أن تحقق المزيد من المكاسب لقطاع الاتصالات، إلا أنها يمكن أن تنطوى أيضا على مخاطر وتحديات. على سبيل المثال، يمكننا أن نرى قطاع تكنولوجيا المعلومات وهو يتوغل ويتداخل فى مجالات العمل التقليدية لقطاع الاتصالات، من خلال خدمات مثل الحوسبة السحابية، ومنصات التواصل الاجتماعى. فكيف يمكن أن يتطور قطاع الاتصالات، ويواجه التحديات، ويخلق فرصا جديدة للنمو.
كتب: أشرف شهاب
تحديات صناعة الاتصالات
مع الفرص الجديدة تنشأ تحديات جديدة، سواء كانت تلك التحديات متعلقة بالمنافسة، أو الاعتبارات التنظيمية أو المالية أو البيئية، أو التقنية. على سبيل المثال، تعتبر شبكات الجيل الخامس من أهم عوامل التغيير الرئيسية، التى يمكن الاستشهاد بها لتوضيح آليات المنافسة ما بين التقنيات المتتالية للاتصالات المحمولة فى إطار سعيها لتجديد الوضع الحالى لصناعة الاتصالات.
بدأ تشغيل تقنيات الجيل الخامس فى كوريا الجنوبية فى إبريل 2019، وفى نفس العام أيضا بدأت الولايات المتحدة الأمريكية فى تشغيل هذا الجيل الأحدث من تقنيات الاتصالات المحمولة. وتزامن إطلاق الجيل الخامس مع حملات دعائية كبيرة لتحفيز المستهلكين على الاستفادة من الخدمات التى يقدمها. ومع ذلك، ورغم إطلاق عشرات الشبكات من الجيل الخامس فى معظم دول العالم، إلا أن تلك الشبكات ما زالت غير متاحة فى الكثير من البلدان، وحتى فى البلدان التى اعتمدتها، فإن تغطية الشبكة ما زالت قاصرة على بعض المدن الرئيسية، ولا تغطى كامل النطاقات الجغرافية. كما أن معظم الخدمات الجديدة التى تم الوعد بها لم تتحقق بعد، فلا تزال إمكانية التشغيل البينى بين الشبكات والأجهزة المختلفة تشكل عائقا أمام الاستفادة القصوى من إمكانات الجيل الخامس، والتى تشمل على سبيل المثال:
الخدمات الجديدة
من المفترض أن توفر تقنية الجيل الخامس سرعات أعلى (أكثر من 100 ميجابت فى الثانية)، وتأخيرا أقل فى زمن الإرسال، وموثوقية أكبر (يتم الإعلان عنها بنسبة 99% أو أفضل) مقارنة بالتقنيات السابقة. كما يتزايد استخدام شبكات الجيل الخامس كبديل للوصول السلكى إلى المنازل والمكاتب. وكذلك لخدمات النطاق العريض المتنقلة. تفتح هذه التكنولوجيا الباب أمام العديد من الإمكانيات التى لم يتم استغلالها بعد. بالنسبة للمستهلكين من المتوقع أن تشمل القدرات الجديدة ألعاب الواقعين المعزز والافتراضي، بالإضافة إلى بث الفيديو المباشر. وفى الأعمال التجارية تشمل أمثلة تطبيق الجيل الخامس تشغيل المعدات الصناعية ومراقبة المرضى عن بعد فى مجال الرعاية الصحية. ويتم تعزيز فوائد الجيل الخامس من خلال الحوسبة المتطورة، التى تعمل على تحقيق اللامركزية فى التحكم فى شبكة الاتصالات، حيث تعمل على تقريب معالجات البيانات القوية من العملاء وربط مليارات الأجهزة على إنترنت الأشياء.
الفرص التجارية
تعمل تقنية الجيل الخامس على إنهاء السيطرة التاريخية لشركات الهاتف والكابلات اللاسلكية على سوق الاتصالات. ففى الماضي كانت شركات الاتصالات تتيح إجراء المكالمات الهاتفية، وكانت شركات الكابلات تقدم خدمات القنوات التلفزيونية. وبمرور الوقت أدى التحول الرقمى فى الأعمال التجارية وفى المنزل إلى تآكل ربحية هذه الخدمات الأساسية، فأصيح بإمكان المشتركين الاستغناء عن خدمات شركات الاتصالات التقليدية كخدمات الرسائل القصيرة والمكالمات المحلية والدولية، وذلك بالاعتماد على تطبيقات التواصل الاجتماعى مثل واتساب، وإيمو، وتليجرام، وفيسبوك، وغيرها، مما أفقد شركات الاتصالات بعض الميزات التى كانت تنفرد بها لصالح شركات تكنولوجيا المعلومات. وحتى مع توليد مصادر جديدة للإيرادات، بما فى ذلك حزم خدمات الصوت والإنترنت والترفيه المتكاملة، ما زالت شركات الاتصالات بحاجة إلى البحث عن طرق جديدة وفعالة لتحقيق النمو وسط الاضطراب التكنولوجى والتحديات التنافسية والتنظيمية وغيرها.
التكنولوجيا
ترسم الإحصائيات صورة دراماتيكية للتغير التكنولوجى المتسارع. فعلى سبيل المثال ارتفع متوسط عدد الأجهزة والاتصالات لكل شخص فى أمريكا الشمالية من 8.2 فى عام 2018 إلى 13.4 فى عام 2023، وفقا لتقديرات شركة Cisco المتخصصة فى معدات الشبكات. وارتفع متوسط سرعات النطاق العريض الثابت من 56.6 ميجا فى الثانية إلى 141.8 ميجا فى الثانية فى نفس الفترة الزمنية. وزادت سرعات الاتصال بشبكة الهاتف المحمول، فى المتوسط، من 21.6 ميجابت فى الثانية إلى 58.4 ميجابت فى الثانية. ولا يقتصر التعامل مع كل تلك الحركة على السرعة والسعة فحسب، بل يتعلق أيضا بالتعقيدات التقنية، نظرا لتنوع الأجهزة وزيادة أنواع الخدمات، وتزايد التطبيقات التى تفرض متطلبات فريدة على شبكات الاتصالات. تشمل تحديات التكنولوجيا ما يلى:
- الحاجة إلى الترقيات والابتكارات المستمرة:
أنفقت صناعة الاتصالات اللاسلكية فى الولايات المتحدة وحدها 39 مليار دولار فى عام 2022 لتوسيع شبكاتها وتحسينها وتشغيلها، وفقا لجمعية CTIA، وهى جمعية تجارة الاتصالات. وتمثل تقنيات الجيل الخامس حصة كبيرة من هذا الاستثمار.
- الاستثمار فى البحث والتطوير:
سواء كان الأمر يتعلق بتطوير التكنولوجيا اللاسلكية أو السلكية، فإن الابتكار لا يتوقف أبدا، وحتى قبل اكتمال طرح شبكة الجيل الخامس اللاسلكية، على سبيل المثال، كان موردو المعدات المحمولة قد بدأوا العمل فعليا على تقنيات الجيل الخامس المتطور (الجيل الخامس والنصف 5.5G) المتوقع بحلول عام 2025 تقريبا، والجيل السادس 6G، الذى نتوقع أن يبدأ نشره تجاريا فى الفترة ما بعد 2023. وفى الوقت نفسه، تتم ترقية الشبكات السلكية التى تديرها شركات الكابلات لتوصيل 10 جيجابت فى كلا الاتجاهين، داخل وخارج المنازل والمكاتب بدءا من العام الجاري 2024. كما تعمل شركات الاتصالات الصغيرة أيضا على تطوير أجهزة وبرامج متطورة كبناء منصات اتصال متعددة المشغلين لإنترنت الأشياء، ومنصات أخرى تعمل على أتمتة الذكاء الاصطناعى لعمليات نشر الجيل الخامس، وثالثة تعمل على تطوير شبكات الجيل الخامس القائمة على تقنيات سلسلة الكتلblockchain .
- تنفيذ وتطوير تقنية الجيل الخامس:
على مستوى العالم تؤكد الإحصاءات أن عدد الأشخاص الذين اشتركوا فى خدمات الجيل الخامس أقل بكثير من العدد الذى كان متوقعا، فقد وصل انتشار اشتراكات الجيل الخامس إلى 36 % من الأشخاص فى أمريكا الشمالية فى الربع الأول من عام 2023، وفقا لاتحاد التجارة5G Americas . وعلى الرغم من أن التقايرير تفيد باستمرار تزايد اشتراكات الهاتف المحمول، إلا أن القلق يحيط بالنمو البطيء للتطبيقات الاستهلاكية الحديثة، مثل الواقع الافتراضي. ويقول بعض المراقبين: إن الأمر أشبه بأحجية "الدجاجة أو البيضة" حيث ينتظر صانعو الأجهزة ارتفاع الطلب على تقنيات الجيل الخامس، فى حين يحجم مستخدمو الجيل الخامس عن الإنفاق حتى يروا هذه الأجهزة بين أيديهم. ومع استمرار هذا الوضع يصبح النمو مسألة بعيدة المنال بشكل متزايد.
- إنترنت الأشياء الأجهزة المتصلة:
تعمل أجهزة إنترنت الأشياء على تمكين الاستشعار عن بعد. ووفقا لشركة أبحاث السوق IDC، تتنافس شركات الاتصالات وشركات تكامل الأنظمة ومقدمو الخدمات السحابية وغيرهم على توفير التصاميم وإمكانات الاتصال وإدارة البيانات لهذه الأجهزة، مما يوضح اضطرار شركات الاتصالات إلى الدخول فى شراكات مع المنافسين للتعامل مع الحجم الهائل من التعقيدات المرتبطة بتنفيذ إنترنت الأشياء.
- تطبيقات الذكاء الاصطناعى والتعلم الآلي:
مثل التقنيات الأخرى، يقدم الذكاء الاصطناعى والتعلم الآلى لشركات الاتصالات فرصا وتحديات. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعى تبسيط عمليات الشبكة وتحسين دعم العملاء وتعزيز عروض الخدمات. وفى الوقت نفسه، يمكن للتعلم الآلى تحسين أداء الشبكة والتنبؤ بالانقطاعات ومنعها وإجراء الصيانة التنبؤية. ومع ذلك، تحتاج شركات الاتصالات إلى التغلب على التحديات التى يفرضها الذكاء الاصطناعى والتعلم الآلي، مثل دمجها فى الأنظمة القديمة فى ظل نقص المهارات اللازمة للقيام بذلك.
- تزايد انتشار الهجمات السيبرانية:
تمثل شبكات الاتصالات بنية تحتية حيوية خطيرة، ومعرضة للهجمات السيبرانية من الدول المعادية، ومن عصابات الجرائم السيبرانية. ومع استمرار تزايد معدلات الهجمات السيبرانية على جميع أنواع الشركات، فإن البيئات الرقمية لشركات الاتصالات، وبيانات العملاء، تصبح أكثر عرضة للمخاطر، وأكثر جاذبية للمجرمين السيبرانيين.
- تحديات المنافسة:
تقدمت معظم شركات الاتصالات الأوروبية بشكاوى للاتحاد الأوروبي تطالب فيها تطالب شركات التكنولوجيا العملاقة مثل جوجل وميتا ومايكروسوفت، ونتفليكس، غيرها بمشاركتها فى تكاليف الشبكات. وقال الرؤساء التنفيذيون للشركات: إن شركاتهم تستثمر ما يزيد على 50 مليار يورو سنويا في البنية التحتية لقطاع الاتصالات. وقالوا: إن تكاليف التخطيط وأعمال البناء، تتضاعف كما تضاعفت أسعار كابلات الألياف الضوئية. وتؤثر الزيادات فى أسعار الطاقة وأسعار المدخلات الأخرى أيضا على أرباح قطاع الاتصالات. ويجادل مشغلو الاتصالات في أوروبا بأن شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة تمثل أكثر من نصف حركة الإنترنت، وأنها تتربح من شبكاتهم أكثر مما يتربحون منها، دون أن يتحملوا أعباء الاستثمار الضخمة، وبالتالى يجب تحميلهم بعض تكلفة ترقية البنية التحتية الأوروبية. وترد الشركات العملاقة بالقول: إنها تستثمر بالفعل في المعدات والتقنيات لتقديم المحتوى، وبالتالى فإنهم ليسوا مضطرين للدفع للشركات الأوروبية.
توضح هذه المشكلة حجم التهديد الذى تمثله شركات التقنية العملاقة على شركات الاتصالات التى تستثمر أرقاما هائلة، ولكنها لا تجنى سوى الفتات، فى الوقت الذى تذهب فيه معظم الأرباح لشركات التكنولوجيا، الأمر الذى يعنى أن شركات الاتصالات بدأت تشعر بأن شركات التكنولوجيا تشكل أكبر تهديد لمصالحها، وأنها تسحب البساط من تحت أقدامها رويدا رويدا.