رئيس مجلس الإدارة
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير
إيمان عراقي

مقالات

ماذا بعد الحريق؟

7-8-2024 | 17:01

بقلم : عماد غنيم - كاتب‭ ‬اقتصادي

باعتبارى،‭ ‬مثل‭ ‬كثيرين‭ ‬غيرى،‭ ‬من‭ ‬المغرمين‭ ‬بالقاهرة‭ ‬الفاطمية،‭ ‬فإننى‭ ‬أنتهز‭ ‬كل‭ ‬فرصة‭ ‬لزيارتها‭ ‬والتجول‭ ‬بين‭ ‬أرجائها‭ ‬لأشتم‭ ‬رائحة‭ ‬التاريخ‭ ‬وعبقه،‭ ‬وأستمتع‭ ‬بمشاهدة‭ ‬مساجد‭ ‬وقصور‭ ‬وأبنية‭ ‬يعود‭ ‬تاريخ‭ ‬إنشائها‭ ‬لما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬عام،‭ ‬وكلما‭ ‬توغلت‭ ‬فى‭ ‬الحوارى‭ ‬والأزقة‭ ‬المحيطة‭ ‬بالشارع‭ ‬الرئيسى‭ ‬أتذكر‭ ‬مزهوا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحوارى‭ ‬مشى‭ ‬عليها‭ ‬خلفاء‭ ‬وسلاطين،‭ ‬وانطلقت‭ ‬منها‭ ‬جيوش‭ ‬عظيمة‭ ‬لتصد‭ ‬الغزاة‭ ‬وتصون‭ ‬الحدود‭.. ‬غير‭ ‬أننى‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬وأنا‭ ‬أسير‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الحوارى‭ ‬الضيقة‭ ‬المكتظة‭ ‬بالناس‭ ‬والبضائع‭ ‬أسأل‭ ‬نفسى‭: ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬وقع‭ ‬حريق‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الحارة‭ ‬أو‭ ‬تلك؟‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تمر‭ ‬سيارات‭ ‬الإطفاء‭ ‬الضخمة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الأزقة‭ ‬الضيقة‭ ‬والملتوية؟‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬الحريق‭ ‬قد‭ ‬وقع،‭ ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأول،‭ ‬ومن‭ ‬الصعب‭ ‬ألا‭ ‬نتصور‭ ‬عدم‭ ‬وقوع‭ ‬حريق‭ ‬مشابه‭ ‬فى‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭ ‬أو‭ ‬قريب‭.. ‬طالما‭ ‬الأحوال‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬عليه‭.‬

كما‭ ‬علمنا‭ ‬فإن‭ ‬حريق‭ ‬الأسبوع‭ ‬الماضى‭ ‬فى‭ ‬حارة‭ ‬اليهود‭ ‬راح‭ ‬ضحيته‭ ‬خمسة‭ ‬قتلى‭ ‬وعدة‭ ‬مصابين،‭ ‬كما‭ ‬التهمت‭ ‬النيران‭ ‬أربع‭ ‬عمارات‭ ‬بما‭ ‬تحويها‭ ‬من‭ ‬شقق‭ ‬ومحال‭ ‬وبضائع‭ ‬قدرت‭ ‬خسائرها‭ ‬المبدئية‭ ‬بعدة‭ ‬ملايين‭. ‬الحريق،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬مألوف،‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬ماس‭ ‬كهربائى،‭ ‬وفى‭ ‬ظل‭ ‬افتقاد‭ ‬المحال‭ ‬لأبسط‭ ‬وسائل‭ ‬مكافحة‭ ‬الحرائق‭ ‬فقد‭ ‬اشتدت‭ ‬النيران‭ ‬وانتشرت،‭ ‬ورغم‭ ‬المأساة‭ ‬فإننا‭ ‬ينبغى‭ ‬أن‭ ‬نشيد‭ ‬بقدرة‭ ‬شرطة‭ ‬الإطفاء‭ ‬والدفاع‭ ‬المدنى‭ ‬على‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬الحريق‭ ‬وإطفائه‭ ‬فى‭ ‬زمن‭ ‬قياسى،‭ ‬والتغلب‭ ‬على‭ ‬معوقات‭ ‬السير‭ ‬فى‭ ‬الأزقة‭ ‬الضيقة‭ ‬والمتعرجة،‭ ‬والتى‭ ‬لن‭ ‬يدرك‭ ‬تعقيداتها‭ ‬إلا‭ ‬أهل‭ ‬المنطقة‭ ‬والمترددون‭ ‬عليها‭.‬

المترددون‭ ‬على‭ ‬شارع‭ ‬الأزهر‭ ‬وحواريه‭ ‬يقدرون‭ ‬بمئات‭ ‬الآلاف‭ ‬يوميا،‭ ‬أقلهم‭ ‬للسياحة‭ ‬وغالبيتهم‭ ‬للتبضع‭ ‬والشراء،‭ ‬فنحن‭ ‬فى‭ ‬قلب‭ ‬منطقة‭ ‬تجارة‭ ‬الجملة‭ ‬التى‭ ‬تورد‭ ‬مختلف‭ ‬السلع‭ ‬بأسعار‭ ‬مميزة،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لسكان‭ ‬القاهرة‭ ‬وإنما‭ ‬لبقية‭ ‬محافظات‭ ‬الجمهورية‭.. ‬وهنا‭ ‬جوهر‭ ‬المشكلة‭ ‬وأس‭ ‬البلاء‭. ‬تاريخ‭ ‬ارتباط‭ ‬تجارة‭ ‬الجملة‭ ‬بالأزهر‭ ‬قديم‭ ‬قدم‭ ‬التاريخ‭ ‬نفسه،‭ ‬فقبل‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬ألف‭ ‬عام‭ ‬كانت‭ ‬القاهرة‭ ‬الفاطمية‭ ‬بأسوارها‭ ‬وأبوابها‭ ‬الأربعة‭ ‬هى‭ ‬عاصمة‭ ‬البلاد،‭ ‬وكان‭ ‬منطقيا‭ ‬أن‭ ‬تتجمع‭ ‬الحرف‭ ‬والأنشطة‭ ‬التجارية‭ ‬فى‭ ‬وسط‭ ‬“العاصمة”،‭ ‬لكن‭ ‬غير‭ ‬المنطقى‭ ‬أن‭ ‬يدوم‭ ‬الحال‭ ‬عبر‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬القرون‭ ‬التى‭ ‬مضت‭ ‬وتغير‭ ‬العصور‭ ‬حتى‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬زماننا‭ ‬هذا‭ ‬ومازال‭ ‬شارع‭ ‬الأزهر‭ ‬ومحيطه‭ ‬هو‭ ‬مقر‭ ‬أنشطة‭ ‬تجارة‭ ‬الجملة‭ ‬لخدمة‭ ‬عشرات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬وتجرى‭ ‬فيه‭ ‬معاملات‭ ‬تجارية‭ ‬تبلغ‭ ‬قيمتها‭ ‬عشرات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬الجنيهات‭ ‬كل‭ ‬يوم‭!‬

قد‭ ‬يقول‭ ‬قائل‭ ‬إن‭ ‬الأسواق‭ ‬التجارية‭ ‬تنوعت‭ ‬وانتشرت‭ ‬فى‭ ‬أحياء‭ ‬القاهرة‭ ‬وعواصم‭ ‬المحافظات،‭ ‬وعرفنا‭ ‬المولات‭ ‬والتسوق‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأساليب‭ ‬الحديثة‭ ‬فى‭ ‬التسوق‭ ‬لم‭ ‬تؤثر‭ ‬فى‭ ‬نشاط‭ ‬تجارة‭ ‬الجملة‭ ‬بالأزهر،‭ ‬والتى‭ ‬تتنوع‭ ‬بين‭ ‬الذهب‭ ‬والملابس‭ ‬والمفروشات‭ ‬والسلع‭ ‬الغذائية،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬تجارة‭ ‬التوابل‭ ‬والحبوب‭ ‬وعشرات‭ ‬الأنشطة‭ ‬الأخرى‭. ‬وحتى‭ ‬اليوم‭ ‬وبعد‭ ‬ألف‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬إنشاء‭ ‬القاهرة‭ ‬الفاطمية‭ ‬فمن‭ ‬المألوف‭ ‬أن‭ ‬يتجه‭ ‬العرسان‭ ‬لانتقاء‭ ‬“الشبكة”‭ ‬من‭ ‬الصاغة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬أى‭ ‬بيت‭ ‬جديد‭ ‬أو‭ ‬قديم‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬شارع‭ ‬الأزهر‭ ‬فى‭ ‬اقتناء‭ ‬المفروشات‭ ‬اللازمة،‭ ‬وهكذا‭ ‬فى‭ ‬بقية‭ ‬السلع‭ ‬التى‭ ‬يحتاج‭ ‬إليها‭ ‬الناس‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فمشتريات‭ ‬الناس‭ ‬هى‭ ‬أقل‭ ‬المشكلات‭ ‬لأن‭ ‬المشكلة‭ ‬الكبرى‭ ‬تكمن‭ ‬فى‭ ‬اعتماد‭ ‬تجار‭ ‬التجزئة‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬والمحافظات‭ ‬على‭ ‬أسواق‭ ‬الجملة‭ ‬فى‭ ‬الأزهر‭ ‬لتوريد‭ ‬احتياجاتهم،‭ ‬ولو‭ ‬حدث‭ ‬ومررت‭ ‬بشارع‭ ‬الأزهر‭ ‬فى‭ ‬وقت‭ ‬متأخر‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬حيث‭ ‬تهدأ‭ ‬حركة‭ ‬المرور،‭ ‬فسوف‭ ‬تجد‭ ‬سيارات‭ ‬النقل‭ ‬الثقيل‭ ‬تقوم‭ ‬بإنزال‭ ‬حمولتها‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬بينما‭ ‬يتم‭ ‬تحميل‭ ‬البضائع‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬سيارات‭ ‬نقل‭ ‬بالغة‭ ‬الصغر‭ ‬لتتمكن‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬غايتها‭ ‬عبر‭ ‬السير‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الحوارى‭ ‬والأزقة‭ ‬الضيقة‭ ‬والتى‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬بمرور‭ ‬سيارات‭ ‬النقل‭ ‬الثقيل‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬السيارات‭.. ‬وهكذا‭ ‬الحال‭ ‬عند‭ ‬تحميل‭ ‬البضائع‭ ‬بالاتجاه‭ ‬العكسى‭ ‬نحو‭ ‬تجار‭ ‬التجزئة‭ ‬فى‭ ‬أنحاء‭ ‬الجمهورية‭. ‬الحل،كما‭ ‬هو‭ ‬معروف‭ ‬منذ‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضى،‭ ‬هو‭ ‬تشييد‭ ‬أسواق‭ ‬للجملة‭ ‬متخصصة‭ ‬فى‭ ‬أماكن‭ ‬متعددة‭ ‬ولا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬القاهرة‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬يكون‭ ‬لكل‭ ‬محافظة‭ ‬سوقها‭ ‬أو‭ ‬أسواق‭ ‬الجملة‭ ‬الخاصة‭ ‬بها‭ ‬حديثة‭ ‬ومريحة،‭ ‬ولقد‭ ‬مررنا‭ ‬بتجارب‭ ‬ناجحة‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬فى‭ ‬أسواق‭ ‬الخضر‭ ‬والأسماك،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬شيئا‭ ‬ما‭ ‬يعطل‭ ‬المضى‭ ‬قدما‭ ‬فى‭ ‬تشييد‭ ‬أسواق‭ ‬جديدة‭ ‬لاستيعاب‭ ‬تجارة‭ ‬الجملة‭ ‬فى‭ ‬الذهب‭ ‬والمفروشات‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬السلع‭ ‬لتكون‭ ‬بديلا‭ ‬عصريا‭ ‬ومريحا‭ ‬عن‭ ‬أسواق‭ ‬الأزهر،‭ ‬وأن‭ ‬تتفرغ‭ ‬المنطقة‭ ‬التاريخية‭ ‬لتكون‭ ‬مزارا‭ ‬سياحيا‭ ‬تراثيا‭ ‬أسوة‭ ‬بالحى‭ ‬اللاتينى‭ ‬فى‭ ‬باريس‭ ‬ومثيلاتها‭ ‬فى‭ ‬روما‭ ‬وبرشلونة‭ ‬وغيرهما‭. ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬تجنب‭ ‬الحرائق‭ ‬والمشكلات‭ ‬البيئية‭ ‬فإن‭ ‬تشييد‭ ‬أسواق‭ ‬عصرية‭ ‬لتجارة‭ ‬الجملة‭ ‬سوف‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬أثر‭ ‬اقتصادى‭ ‬فورى،‭ ‬فمشكلات‭ ‬الطرق‭ ‬ترفع‭ ‬من‭ ‬تكلفة‭ ‬النقل،‭ ‬ومحدودية‭ ‬المنطقة‭ ‬رفعت‭ ‬أسعار‭ ‬المحال‭ ‬هناك‭ ‬إلى‭ ‬عشرات‭ ‬الملايين‭ ‬للمحال‭ ‬المتوسطة،‭ ‬فيما‭ ‬يبلغ‭ ‬سعر‭ ‬المتر‭ ‬المربع‭ ‬فى‭ ‬شارع‭ ‬المعز‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬400‭ ‬ألف‭ ‬جنيه،‭ ‬وكل‭ ‬هذه‭ ‬تكاليف‭ ‬تحمل‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬على‭ ‬ثمن‭ ‬السلعة‭ ‬الذى‭ ‬يتحمله‭ ‬المستهلك‭. ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬خطط‭ ‬لإنشاء‭ ‬أسواق‭ ‬حديثة‭ ‬لتجارة‭ ‬الجملة‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬القاهرة‭ ‬الفاطمية‭ ‬وأن‭ ‬دولا‭ ‬أجنبية‭ ‬مثل‭ ‬فرنسا‭ ‬قدمت‭ ‬منحا‭ ‬لدراسة‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التراث،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬محاولة‭ ‬جادة‭ ‬فى‭ ‬آخر‭ ‬وزارة‭ ‬قبل‭ ‬ثورة‭ ‬يناير‭ ‬للشروع‭ ‬فى‭ ‬إنشاء‭ ‬مراكز‭ ‬حديثة‭ ‬لتجارة‭ ‬الجملة‭ ‬تكون‭ ‬بديلة‭ ‬عن‭ ‬الأزهر‭ ‬وأسواقه‭ ‬التاريخية‭. ‬الأمر‭ ‬يحتاج‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬قرار،‭ ‬وقد‭ ‬يسهل‭ ‬الأمور‭ ‬إشراك‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬فى‭ ‬تمويل‭ ‬وإدارة‭ ‬هذه‭ ‬الأسواق‭ ‬حتى‭ ‬ننتهى‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬المزعجة‭ ‬ونستفيد‭ ‬من‭ ‬مزاياها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والحضارية‭.. ‬بينما‭ ‬تعود‭ ‬لمنطقة‭ ‬الأزهر‭ ‬رونقها‭ ‬وبهاؤها‭ ‬كواحدة‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬الأحياء‭ ‬التراثية‭ ‬فى‭ ‬العالم‭.‬

اخر اصدار