بقلم : عماد غنيم - كاتب اقتصادي
باعتبارى، مثل كثيرين غيرى، من المغرمين بالقاهرة الفاطمية، فإننى أنتهز كل فرصة لزيارتها والتجول بين أرجائها لأشتم رائحة التاريخ وعبقه، وأستمتع بمشاهدة مساجد وقصور وأبنية يعود تاريخ إنشائها لما يقرب من ألف عام، وكلما توغلت فى الحوارى والأزقة المحيطة بالشارع الرئيسى أتذكر مزهوا أن هذه الحوارى مشى عليها خلفاء وسلاطين، وانطلقت منها جيوش عظيمة لتصد الغزاة وتصون الحدود.. غير أننى فى كل مرة وأنا أسير فى هذه الحوارى الضيقة المكتظة بالناس والبضائع أسأل نفسى: ماذا لو وقع حريق فى هذه الحارة أو تلك؟ وكيف يمكن أن تمر سيارات الإطفاء الضخمة من بين هذه الأزقة الضيقة والملتوية؟ وها هو الحريق قد وقع، وهو لم يكن الأول، ومن الصعب ألا نتصور عدم وقوع حريق مشابه فى زمن بعيد أو قريب.. طالما الأحوال على ما هى عليه.
كما علمنا فإن حريق الأسبوع الماضى فى حارة اليهود راح ضحيته خمسة قتلى وعدة مصابين، كما التهمت النيران أربع عمارات بما تحويها من شقق ومحال وبضائع قدرت خسائرها المبدئية بعدة ملايين. الحريق، كما هو مألوف، نتج عن ماس كهربائى، وفى ظل افتقاد المحال لأبسط وسائل مكافحة الحرائق فقد اشتدت النيران وانتشرت، ورغم المأساة فإننا ينبغى أن نشيد بقدرة شرطة الإطفاء والدفاع المدنى على الوصول إلى مكان الحريق وإطفائه فى زمن قياسى، والتغلب على معوقات السير فى الأزقة الضيقة والمتعرجة، والتى لن يدرك تعقيداتها إلا أهل المنطقة والمترددون عليها.
المترددون على شارع الأزهر وحواريه يقدرون بمئات الآلاف يوميا، أقلهم للسياحة وغالبيتهم للتبضع والشراء، فنحن فى قلب منطقة تجارة الجملة التى تورد مختلف السلع بأسعار مميزة، ليس فقط لسكان القاهرة وإنما لبقية محافظات الجمهورية.. وهنا جوهر المشكلة وأس البلاء. تاريخ ارتباط تجارة الجملة بالأزهر قديم قدم التاريخ نفسه، فقبل ما يزيد على ألف عام كانت القاهرة الفاطمية بأسوارها وأبوابها الأربعة هى عاصمة البلاد، وكان منطقيا أن تتجمع الحرف والأنشطة التجارية فى وسط “العاصمة”، لكن غير المنطقى أن يدوم الحال عبر كل هذه القرون التى مضت وتغير العصور حتى نصل إلى زماننا هذا ومازال شارع الأزهر ومحيطه هو مقر أنشطة تجارة الجملة لخدمة عشرات الملايين من الناس، وتجرى فيه معاملات تجارية تبلغ قيمتها عشرات الملايين من الجنيهات كل يوم!
قد يقول قائل إن الأسواق التجارية تنوعت وانتشرت فى أحياء القاهرة وعواصم المحافظات، وعرفنا المولات والتسوق عبر الإنترنت، لكن كل هذه الأساليب الحديثة فى التسوق لم تؤثر فى نشاط تجارة الجملة بالأزهر، والتى تتنوع بين الذهب والملابس والمفروشات والسلع الغذائية، وصولا إلى تجارة التوابل والحبوب وعشرات الأنشطة الأخرى. وحتى اليوم وبعد ألف عام من إنشاء القاهرة الفاطمية فمن المألوف أن يتجه العرسان لانتقاء “الشبكة” من الصاغة، كما أن أى بيت جديد أو قديم يعتمد على شارع الأزهر فى اقتناء المفروشات اللازمة، وهكذا فى بقية السلع التى يحتاج إليها الناس. ومع ذلك فمشتريات الناس هى أقل المشكلات لأن المشكلة الكبرى تكمن فى اعتماد تجار التجزئة فى القاهرة والمحافظات على أسواق الجملة فى الأزهر لتوريد احتياجاتهم، ولو حدث ومررت بشارع الأزهر فى وقت متأخر من الليل حيث تهدأ حركة المرور، فسوف تجد سيارات النقل الثقيل تقوم بإنزال حمولتها على الرصيف بينما يتم تحميل البضائع بعد ذلك على سيارات نقل بالغة الصغر لتتمكن من الوصول إلى غايتها عبر السير خلال هذه الحوارى والأزقة الضيقة والتى لا تسمح بمرور سيارات النقل الثقيل وكثير من أنواع السيارات.. وهكذا الحال عند تحميل البضائع بالاتجاه العكسى نحو تجار التجزئة فى أنحاء الجمهورية. الحل،كما هو معروف منذ ستينيات القرن الماضى، هو تشييد أسواق للجملة متخصصة فى أماكن متعددة ولا تقتصر على القاهرة فقط، وإنما يكون لكل محافظة سوقها أو أسواق الجملة الخاصة بها حديثة ومريحة، ولقد مررنا بتجارب ناجحة فى هذا الاتجاه فى أسواق الخضر والأسماك، إلا أن هناك شيئا ما يعطل المضى قدما فى تشييد أسواق جديدة لاستيعاب تجارة الجملة فى الذهب والمفروشات وغيرها من السلع لتكون بديلا عصريا ومريحا عن أسواق الأزهر، وأن تتفرغ المنطقة التاريخية لتكون مزارا سياحيا تراثيا أسوة بالحى اللاتينى فى باريس ومثيلاتها فى روما وبرشلونة وغيرهما. بالإضافة إلى تجنب الحرائق والمشكلات البيئية فإن تشييد أسواق عصرية لتجارة الجملة سوف يكون له أثر اقتصادى فورى، فمشكلات الطرق ترفع من تكلفة النقل، ومحدودية المنطقة رفعت أسعار المحال هناك إلى عشرات الملايين للمحال المتوسطة، فيما يبلغ سعر المتر المربع فى شارع المعز ما يزيد على 400 ألف جنيه، وكل هذه تكاليف تحمل فى النهاية على ثمن السلعة الذى يتحمله المستهلك. أعرف أنه كانت هناك خطط لإنشاء أسواق حديثة لتجارة الجملة بعيدا عن القاهرة الفاطمية وأن دولا أجنبية مثل فرنسا قدمت منحا لدراسة هذا الأمر من باب الحفاظ على التراث، كما كانت هناك محاولة جادة فى آخر وزارة قبل ثورة يناير للشروع فى إنشاء مراكز حديثة لتجارة الجملة تكون بديلة عن الأزهر وأسواقه التاريخية. الأمر يحتاج الآن إلى قرار، وقد يسهل الأمور إشراك القطاع الخاص فى تمويل وإدارة هذه الأسواق حتى ننتهى من هذه القصة المزعجة ونستفيد من مزاياها الاقتصادية والحضارية.. بينما تعود لمنطقة الأزهر رونقها وبهاؤها كواحدة من أقدم الأحياء التراثية فى العالم.