كتب: أشرف شهاب
مع تزايد اعتماد الصناعات العالمية على المعادن الحيوية والمواد الخام مثل الليثيوم والكوبالت والعناصر الأرضية النادرة، تثير سيطرة الصين المطلقة على نحو 85 % إلى 90 % من عمليات توريد ومعالجة هذه الموارد الأساسية مخاوف كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة والدول الأوروبية، إذ تخشى الاقتصادات الكبرى من مواجهة عواقب وخيمة إذا قررت الصين قطع الإمدادات عنها فى حالةتصاعد التوترات الجيوسياسية، إذ يتم النظر إلى النفوذ الصينى المتزايد فى هذا القطاع باعتباره تهديدا مباشرا للاستقلال الاقتصادى والاستراتيجى لتلك الدول.
ويتم إدراج قضية تأمين سلاسل توريد المعادن الحيوية الاستراتيجية، عبر جميع الصناعات، وعبر جميع المراحل بداية من شراء المواد الخام إلى المعالجة على رأس أولويات استراتيجيات الأمن الاقتصادى لتلك الدول، نظرا لأن تلك المعادن والمواد الخام النادرة ليست حيوية فقط لأهميتها فى التحول فى مجال الطاقة، بل أيضا لدورها فى الصناعات المستقبلية، كصناعات أشباه الموصلات والتقنيات الرائدة التى تشمل الصناعات الدفاعية، والذكاء الاصطناعى، والبلوك تشين، وإنترنت الأشياء، ومراكز البيانات، وغيرها.
تشير التقديرات إلى أن الصين تسيطر بشكل حاسم على كل شىء يتعلق بالمعادن الحيوية، بدءا من المشتريات مرورا بالتكرير والمعالجة، وصولا إلى الاستخدام النهائى لهذه المعادن. وقدرت شركة جولدمان ساكس للأبحاث فى تقرير نشرته فى سبتمبر 2023، أن الصين تهيمن على ما يتراوح بين 85 و90 % من عمليات تكرير المعادن النادرة من المناجم إلى المعادن على مستوى العالم، بالإضافة إلى 92 % من التصنيع العالمى لمغناطيسات الأرض النادرة (التى تشمل 3 معادن نادرة). كما تقوم بتكرير نحو 68 % من إجمالى الكوبالت على مستوى العالم، و65 % من النيكل، و60 % من عنصر الليثيوم.
تأتى هذه السيطرة الصينية الواسعة، فى الوقت الذى تشير فيه تقديرات قدرت وكالة الطاقة الدولية، فيما يتعلق بمجال الطاقة المتجددة وحدها، إلى ارتفاع الطلب العالمى على تلك المعادن بشكل كبير، فقد ارتفع متوسط كمية المعادن الحيوية التى يتم استخدامها فى الوحدات الجديدة لتوليد الطاقة بنسبة 50 %. وتشير توقعات منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، استنادا إلى بيانات من وكالة الطاقة الدولية، إلى ارتفاع الطلب العالمى على الليثيوم بنسبة تزيد على 1500 %، إلى جانب زيادات مماثلة فى الطلب على النيكل والكوبالت والنحاس.
اعتماد كلى
وفى شهر يونيو 2024، أشارت جريسلين باسكاران، مديرة مشروع أمن المعادن الحرجة فى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكى، فى شهادتها أمام لجنة الصحة والتعليم والعمل والمعاشات التقاعدية بمجلس الشيوخ الأمريكى إلى أن الولايات المتحدة استوردت نحو 50 % من المعادن الخمسين المدرجة فى القائمة النهائية للمعادن الحيوية التى أقرتها هيئة المسح الجيولوجى الأمريكية. وأكدت أن الولايات المتحدة تعتمد كليا على استيراد 12 معدنا من تلك المعادن، وأنها تعتمد اعتمادا كليا على الصين فى 9 من تلك المعادن.
وفى الشهر نفسه، أعلنت اللجنة الخاصة بالصين فى مجلس النواب الأمريكى أنها ستشكل مجموعة من أعضاء الحزبين، بقيادة النائب روب ويتمان، لمواجهة هيمنة الصين على المواد الحيوية، التى قامت ببنائها على مدار عقدين من الزمان. وأعلنت اللجنة أنها ستعمل على تطوير حزمة من الاستثمارات والإصلاحات التنظيمية والحوافز الضريبية للحد من الاعتماد الأمريكى على الصين.
تخوف عالمى
ويشير الخبراء الهنود إلى أن هيمنة الصين على المواد الحيوية عبر العالم لا تهدد فقط الاقتصاد الأمريكى، بل يمكن أن يمتد ليشمل الهند التى تشهد واحدا من أسرع الاقتصادات نموا فى العالم، والتى تشهد توترات كبيرة مع الصين. وأشار تقرير نشره راجيش تشادها، وغانيش سيفامانى، الباحثان فى مركز التقدم الاجتماعى والاقتصادى الهندى فى السابع من يونيو الماضى، إلى أن احتياجات الهند وحدها للطاقة الشمسية الكهروضوئية، وطواحين الهواء، وأنظمة تخزين الطاقة بالبطارياتسترتفع بشكل كبير. فبحلول عام 2025 سيصل حجم الطلب فى الهند إلى نحو 58 طنا من الليثيوم، و17 طنا من الكوبالت، و52 طنا من النيكل، و609 أطنان من الجرافيت، فضلا عن 98500 طن من النحاس. أما بحلول عام 2030 فسيرتفع الطلب ليصل إلى 13671 طنا من الليثيوم، و3878 طنا من الكوبالت، و13671 طنا من النيكل، و142892 طنا من الجرافيت، و375091 طنا من النحاس.
وتقدر وكالة الطاقة الدولية أنه بحلول عام 2030، ستتركز ما يقرب من 50 % من القيمة السوقية لصناعات تكرير المواد الخام فى الصين التى تعد أكبر منتج لـ30 من أصل 50 معدنا بالغ الأهمية، بما فى ذلك 14 من معادن اللانثانيدات، وهى مجموعة من 15 عنصرا مدرجة فى قائمة المعادن النادرة، وفقا لهيئة المسح الجيولوجى الأمريكية الصادرة عام 2023. كما تمارس الصين هيمنة كبيرة على سلاسل توريد العديد من خامات المعادن الحيوية الحرجة، حيث تستحوذ على مناجم فى جمهورية الكونغو، وزيمبابوى، والأرجنتين، تسمح لها باستخراج نحو 705 آلاف طن من الليثيوم بحلول عام 2025.
قلق مضاعف
ومما يضاعف من حدة القلق الأمريكى أن قوة الصين لا تقتصر على هيمنتها على سلاسل التوريد من المنبع فحسب، بل تشمل أيضا هيمنتها علىصناعة المنتجات النهائية التى تستخدم هذه المواد الحيوية مثل السيارات الكهربائية وألواح توليد الطاقة الشمسية، وتوربينات الرياح، ومنظومات الدفاع، والروبوتات وغيرها من الصناعات المتقدمة. فعلى سبيل المثال، تصنع الصين 68 % من كاثودات البطاريات العالمية (الأقطاب السالبة فى البطاريات)، و73 % من مواد الأنود النشطة (المواد التى تستخدم فى صناعة الأقطاب السالبة فى البطاريات القابلة لإعادة الشحن). وتمثل الأنودات نحو 12 % من تكاليف البطاريات. كما قدرت شركة جولدمان ساكس للأبحاث أن نحو 65 % من مكونات البطاريات، و71 % من خلايا البطاريات، و57 % من السيارات الكهربائية العالمية يتم تصنيعها فى الصين.
مواجهة دولية
وتشير وحدة تتبع سياسة المعادن الحرجة التابعة لوكالة الطاقة الدولية إلى وجود أكثر من 200 من السياسات واللوائح التنظيمية التى تم إقرارها ويجرى تطبيقها لضمان إمدادات المواد الحيوية فى مواجهة الهيمنة الصينية، بما فى ذلك قانون المواد الخام الحرجة للاتحاد الأوروبى، وقانون خفض التضخم فى الولايات المتحدة، واستراتيجية المعادن الحرجة فى أستراليا، وغيرها.
كما تشير اتفاقية الشراكة الأمنية للمعادن التى تقودها الولايات المتحدة، وهى استراتيجية لدعم الدول الصديقة للولايات المتحدة تضم 14 دولة بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبى تتعاون معا لجمع الاستثمارات وتنفيذ الاستراتيجيات اللازمة لوقف هيمنة الصين على سلاسل توريد المعادن الحرجة.
وأقرت دول مثل استراليا، التى تعد أكبر منتج لخام الليثيوم فى العالم حاليا، وإندونيسيا، وناميبيا، وزيمبابوى، سياسات تحظر تصدير الخامات المعدنية. وفى الوقت نفسه بدأت التكتلات الموجهة من الولايات المتحدة حملة لشراء المناجم والأصول التعدينية، وخاصة فى إفريقيا.
ومع ذلك، الأكثر إثارة لقلق الولايات المتحدة يتعلق بالوقت الذى ستستغرقه هذه السياسات لتحطيم سيطرة الصين شبه الكاملة على المعادن الحيوية، خصوصا أن معظم دول العالم عدا الصين، مازالت عاجزة عن تطوير القدرات اللازمة لمعالجة معظم المعادن الحيوية على نطاق واسع. كما أن المشروعات المتعلقة بالصناعات التعدينية تحتاج إلى فترات زمنية طويلة للتنفيذ. وتشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أن تنفيذ بعض تلك المشرعات قد يستغرق نحو 12 عاما بين مراحل الاستكشاف ودراسات الجدوى، بالإضافة إلى 4 إلى 5 سنوات إضافية لبناء المصانع. الأمر الذى يعنى أن الولات المتحدة وحلفاءها بحاجة إلى ما بين 15 و17 عاما لتتمكن من مواجهة الصين.
مصالح الصين
وتشير تقديرات الأونكتاد إلى أن هناك نحو 100 مشروع تعدين جديد قيد التنفيذ حاليا فى جميع أنحاء العالم، ولكن لتلبية أهداف الانبعاثات الصفرية الصافية لعام 2030 وحدها، ستكون هناك حاجة إلى نحو 80 منجما جديدا للنحاس، و70 منجما جديدا لليثيوم والنيكل، و30 منجما جديدا للكوبالت. وتحتاج إلى استثمارات تتراوح بين 360 و450 مليار دولار أمريكى. وحتى إذا استمر زخم الجهود الاستثمارية الحالية، فإن هناك فجوة محتملة فى الاستثمارات تتراوح بين 180 و270 مليار دولار أمريكى. كما أن الاستحواذ على مناجم أو مواد خام جديدة ليس بهذه السهولة، لأن المبادرات التى ستقوم بها الكتل التى تقودها الولايات المتحدة ستصطدم حتما بمصالح الصين فى حماية أمنها الصناعى والاقتصادى. كما قد تصطدم بالتدخل الروسى لدعم حليفها الصينى، فى دول مثل مالى، التى تقدر احتياطياتها بنحو 700 ألف طن من الليثيوم، إذ تدعم موسكو حكومة مالى، والعديد من الحكومات الإفريقية الأخرى.
تكتلات عالمية
ومن الممكن أن تتسبب الجهود الأمريكية فى حدوث تحول جيوسياسى وجيواقتصادى كبير بسبب التوترات القصيرة والمتوسطة الأجل، خصوصا فيما يتعلق بالدعم الأمريكى لتايوان لأن الصين تمتلك القدرة على زعزعة استقرار النظام الاقتصادى العالمى إذا ما تعرضت مصالحها للخطر.كما تكتسب هيمنة الصين على شبكة المعادن الحيوية حوال العالم أهمية أكبر مع ظهور علامات التفتت فى التجارة العالمية إلى كتل، كما هو الحال مع تكتل بريكس.
من المسلم به أن بعض السياسات الصينية عبارة عن ردود فعل على القيود التى تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها على الصين.
وفى المقابل أكدت الصين مرارا أنها لن تتوانى عن استخدام مصادر قوتها فى مواجهة أى تهديدات، كما فعلت مؤخرا بإعلانها حظر تصدير تقنيات استخراج وفصل المعادن الحيوية، بالإضافة إلى قرارها السابق بفرض قيود على صادرات المعادن 9 مرات بين عامى 2009 و2020، وتعريضها سلاسل التوريد للمقاولين الأميركيين للتهديد، ما جعل الولايات المتحدة، وحلفاءها يشعرون بالخطر، ويدركون فداحة المأزق الذى قادتهم الصين إليه.