كتب: أشرف شهاب
يجتمع زعماء العالم فى مؤتمر الأطراف التاسع والعشرين COP29 بالعاصمة الأذربيجانية باكو، خلال الفترة من 11 نوفمبر حتى 22 نوفمبر الجارى، بهدف مواصلة جهود التحرك بشأن العمل المناخى وتعزيز أهداف الاستدامة والتحول فى مجال الطاقة. ويمثل كل مؤتمر للأطراف لحظة حاسمة فى التقدم والتعاون الدوليين، لتنسيق العمل الجماعى حول الأهداف المشتركة. لكن كل مؤتمر يؤكد أن الوقت ينفد لمكافحة أسوأ آثار تغير المناخ، لذا ينعقد المؤتمر الحالى تحت شعار: «الاستثمار اليوم لإنقاذ الغد»، ما يؤكد الحاجة الماسة إلى حلول مبتكرة لتحديات تمويل المناخ، والالتزام الطوعى بالمساهمات الوطنية المحددة وفقا للمادة 6 من اتفاق باريس.
تأتى قمة هذا العام وسط تقارير جديدة تشير إلى أن مستويات الاحتباس الحرارى العالمى تتسارع، ما ينذر بجلب المزيد من الكوارث المرتبطة بالمناخ، وزيادة الطلب على التمويل للتخفيف من آثار تغير المناخ، الأمر الذى يؤكد أن الهدف الذى تم الاتفاق عليه منذ مؤتمر الأطراف الأول COP1 منذ ما يقرب من 30 عاما فى برلين للحد من الاحتباس الحرارى العالمى إلى ما دون 1.5 درجة مئوية لايزال ليس فقط بعيد المنال، بل إن العالم يقترب بشكل خطير من خرق هذا الحد، لأن معظم دول العالم فشلت فى احتواء ارتفاع درجات الحرارة إلى الحد المتفق عليه. كما وصل تراكم ثانى أكسيد الكربون وغاز الميثان فى الغلاف الجوى إلى أعلى مستوى مسجل على الإطلاق.كما يمثل حرق الوقود الأحفورى نحو 90 % من هذه الانبعاثات، وطبقا لتصريحات جيم سكيا، رئيس الفريق الحكومى الدولى المعنى بتغير المناخ، وهو المجموعة العلمية التى تقدم المشورة للأمم المتحدة بشأن المناخ، فإن الالتزامات غير الكافية ترسم “صورة قاتمة” للمستقبل.
تضارب المصالح
وقد أثار اختيار أذربيجان كدولة مضيفة للمؤتمر مخاوف بشأن مصداقية المؤتمر، فهذه المرة تعد الثالثة التى تستضيف فيها دولة منتجة كبيرة للوقود الأحفورى المؤتمر، والمرة الثانية فى غضون عامين، خصوصا أن الرئيس الأذربيجانى إلهام علييف، استبق أعمال المؤتمر بالإعلان عن خطط لزيادة إنتاج الغاز جزئيا لتلبية مطالب الاتحاد الأوروبى، وأشار إلى احتياطيات النفط والغاز فى البلاد باعتبارها “هدية من الله”. كما أدى اختيار وزير البيئة والموارد الطبيعية الأذربيجانى مختار باباييف، وهو شخصية بارزة فى صناعة النفط فى أذربيجان، كمفاوض رئيسى للمؤتمر، إلى زيادة المخاوف من حدوث تضارب فى المصالح يمكن أن يقوض أهداف المؤتمر.
كما أن انعقاد المؤتمر بعد أقل من أسبوع من فوز دونالد ترامب، فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، يمكن أن يؤثر بشدة على المفاوضات، ونتائج التصويت فى المؤتمر، إذ من المرجح أن تؤدى رئاسة دونالد ترامب مرة أخرى إلى انسحاب الولايات المتحدة (مرة أخرى) من مؤتمر الأطراف واتفاقية باريس، فضلا عن تراجعها عن الالتزام بخفض الانبعاثات محليا، وامتناعها عن الوفاء بأى التزامات مناخية دولية، علما بأن الولايات المتحدة هى أكبر مصدر للانبعاثات فى العالم، ومن بين أكبر مصدرى الغازات المسببة للاحتباس الحرارى العالمى حاليا، ومن ثم فإن انسحاب الولايات المتحدة من التزاماتها يمكن أن يقوض أى جهود عالمية لتحقيق أى تقدم.
تحولات زلزالية
ويشير تقرير صدر مؤخرا عن المنتدى الاقتصادى العالمى إلى أن تأثيرات تغير المناخ باتت واضحة بشكل لا يمكن إنكاره، كما يتضح من الدمار الذى أحدثته الفيضانات فى إسبانيا، والأعاصير القاتلة فى الولايات المتحدة، وغيرها من الأحداث المناخية المتطرفة فى جميع أنحاء العالم. وأن هناك ضرورة ملحة لتوسيع الجهود العالمية لمعالجة تغير المناخ بشكل أسرع من أى وقت مضى، لدرجة أن العالم أصبح فى حاجة إلى: “تحولات زلزالية، وليس مجرد تغييرات تدريجية”.
وعلى الرغم من وجود الكثير من الحلول التى يمكن تطبيقها لمواجهة أزمات المناخ، فإن جميع هذه الحلول ينقصها العنصر الأهم للتنفيذ، ألا وهو التمويل، فالتمويل فقط هو الذى يمكن أن يفتح الباب أمام تحقيق الأهداف المناخية بشكل عاجل. ولهذا، تم تكليف COP29 بصياغة اتفاق لإنشاء هدف جماعى مشترك جديد لتوفير التمويل المناخى المطلوب.
مصادر التمويل
من البديهى أن الاتفاق على توفير التمويل اللازم لا يتعلق بالصدقة أو الكرم بل بالمسئولية والعدالة، ويستند بقوة إلى مبدأ المسئوليات المشتركة ولكن المتباينة والقدرات المتبادلة المنصوص عليها فى اتفاق باريس واتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ. وبالتالى فعلى أولئك الذين تسببوا بشكل أكبر فى أزمة المناخ أن يتحملوا العبء الأكبر من تكلفة الحل. ولكن حتى هذا المبدأ يواجه صعوبات فى التنفيذ بعد أن أثبتت نتائج القمم الماضية صعوبة الاتفاق على توفير التمويل، حيث تلقى البلدان المتقدمة بالعبء على بنوك التنمية المتعددة الأطراف كمصدر للتمويل، لكن معظم التمويلات التى تقدمها تلك البنوك تأتى فى شكل قروض. وحاليا يتم توفير 69 % من إجمالى تمويل المناخ فى شكل قروض، ما يزيد من تعريض البلدان النامية المثقلة بالديون لمزيد من المخاطر، فضلا عن أن تلك القروض غير عادلة لأنها تجبر البلدان النامية على تسديد أموال أكثر مما تقترض لحل مشكلة لم تتسبب فيها أساسا.
ويتطلب توفير الالتزامات التمويلية المشتركة لمواجهة تغير المناخ توفير حوالى تريليون دولار سنويا، وتوجيهها إلى البلدان النامية لمواجهة الأزمة. ومع ذلك فإن البعض يتساءل: هل توفير تريليون دولار أمريكى هدف قابل للتحقيق؟ والإجابة نعم، بشرط، أن تتم الاستفادة مما يسمى: “المصادر المبتكرة” للتمويل، وإجبار الملوثين والمستغلين على الدفع. فعلى سبيل المثال، يمكن لدول مجموعة العشرين، فرض ضرائب على الثروات أو المليارديرات تصل فى مجموعها إلى نحو 1.7 تريليون دولار سنويا. بالإضافة إلى ذلك، مع ارتفاع أرباح الطاقة إلى أكثر من 120 مليار دولار لشركات النفط الخمس الكبرى فى عام 2023، يمكن فرض ضرائب عليها لتمويل الأهداف المناخية، تنفيذا لمقررات القمم السابقة، ومن أهمها قمة شرم الشيخ.
لحظة فارقة
كانت قمة COP27 التى استضافتها مصر فى الفترة من 6 إلى 18 نوفمبر 2022 بمشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسى، لحظة فارقة فى تاريخ سلسلة مؤتمرات COP، حيث أسفرت عن نتائج كان من الممكن أن تبشر بتحقيق تقدم كبير فى معالجة أزمة المناخ، خصوصا للدول النامية والمتضررة. وكان من أبرز نتائجها: (1) الإنجاز التاريخى بالاتفاق على إنشاء صندوق “الخسائر والأضرار”، للدول النامية التى طالبت بهذا النوع من التمويل لمساعدتها فى مواجهة الآثار السلبية للتغير المناخى. (2) أكدت القمة ضرورة زيادة تمويل التكيف مع تغير المناخ، لمساعدة الدول الأكثر عرضة للخطر على تعزيز بنيتها التحتية. (3) التشديد على خفض استخدام الوقود الأحفورى بشكل تدريجى، والتركيز على الانتقال إلى الطاقة المتجددة. (4) تعزيز الالتزامات بزيادة الاستثمار فى مشرعات الطاقة المتجددة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفورى وخفض الانبعاثات الكربونية. (5) تشديد الدول النامية على ضرورة التزام الدول المتقدمة بتوفير التمويل الذى وعدت به، والمحدد بـ100 مليار دولار سنويا، والدعوة إلى توفير تمويل جديد وإضافى. (6) إطلاق مبادرات لدعم القارة الإفريقية، التى تعد الأكثر تأثرا رغم مساهمتها الضئيلة فى الانبعاثات الكربونية. (7) تأكيدأهمية الحلول الطبيعية لمواجهة تغير المناخ، مثل حماية الغابات والمحيطات. (8) مطالبة الدول بتحديث خططها الوطنية بانتظام لضمان تحقيق أهداف اتفاق باريس، وتأكيد أهمية زيادة الطموحات المناخية لتجنب تجاوز ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار 1.5 درجة مئوية. (9) التركيز على تأثير المناخ على الأمن الغذائى، ومناقشة استراتيجيات تعزيز الزراعة المستدامة وزيادة الإنتاج الغذائى بطرق صديقة للبيئة.
فاتورة باهظة
يكشف تنصل الدول المتقدمة، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، من التزاماتها، عن أن المسئولية واضحة، وأن ثمن التقاعس مرتفع بحيث لا تستطيع البلدان المتقدمة أن تقول ببساطة إنها لا تملك التمويل الكافى للمواجهة، فقد حان الوقت للتوقف عن إختلاق الأعذار، والبدء فى مواجهة التغيرات المناخية بحسم. وحتى هذه اللحظة، ورغم بدء أعمال القمة والمقترحات العديدة التى قدمتها البلدان النامية، فإنه لم تضع أى دولة متقدمة حتى الآن رقما فعليا على طاولة المفاوضات. وإذا انتهت فعاليات COP29 دون التوصل إلى حلول فعالة لتوفير التمويل اللازم، فإن العمل المناخى لن يتوقف فحسب، بل سيترك النساء والرجال والأطفال الضعفاء فى البلدان النامية فى مواجهة تحمل أعباء فاتورة باهظة لن يمكنهم الوفاء بها، وفى الوقت نفسه، سيواصل الملوثون والمستغلون العمل دون عقاب.
والأكيد، أن كوكبنا لا يتحمل المزيد من الوعود الفارغة والأهداف التدريجية غير الواضحة، ما يتطلب التزام البلدان التى تسببت فى أزمة المناخ التصرف بجدية وجرأة لضمان تحقيق أهداف اتفاق باريس قبل فوات الأوان.