اعداد: أشرف شهاب
يشهد الاقتصاد العالمي اليوم حالة من التناقض الاقتصادى النادر، تعيد إلى أذهاننا ما حدث قبل 100 عام، عندما أدى الازدهار الأمريكي إلى انهيار سوق وول ستريت للأوراق المالية، وبداية سنوات الكساد العظيم.
ففي الوقت الذي تكافح فيه الاقتصادات الكبرى لتحقيق نمو إيجابي، تتربع الولايات المتحدة حاليا على عرش طفرة مالية، حيث تتدفق رؤوس الأموال إلى سوق الأسهم والنظام المالي من مختلف أنحاء العالم.
تتجلى هذه الطفرة بوضوح في أداء سوق الأسهم الأمريكية، الذي تفوق بشكل ملحوظ على نظيره العالمي خلال عام 2024، خصوصا بسبب الدور الحاسم الذى لعبته شركات التكنولوجيا التى تشكل حاليا نحو ثلث القيمة السوقية لمؤشر "ستاندرد آند بورز 500". وأبرز مثال على ذلك هو صعود شركة "نيفيديا"، التي ارتفعت قيمتها السوقية من 328 مليار دولار في ديسمبر 2020 إلى 3.3 تريليون دولار في ديسمبر 2024، مسجلة نموا مذهلا يتجاوز 900 %.
وعلى النقيض من ذلك، كان أداء الأسواق الأوروبية أقل من المتوقع، حيث انخفضت قيمة اليورو بنسبة 5.5 ٪ مقابل الدولار في عام 2024. كما واجهت عملات الأسواق الناشئة انخفاضا كبيرا مقابل الدولار، مما عزز من مكانة الدولار الأمريكي وجاذبية السوق الأمريكي.
ألمانيا
تواجه ألمانيا، ثالث أكبر اقتصاد في العالم، تحديات تثير المخاوف بشأن قدرتها على مواصلة لعب دورها القيادي في الاقتصاد الأوروبي بسبب تأثير الأزمات العالمية مثل ارتفاع تكاليف الطاقة واضطرابات سلاسل الإمداد، بالإضافة إلى تباطؤ النمو في قطاعاتها الصناعية التقليدية، وكلها تشكل عوامل ضغط، لدرجة بدأت تثير التساؤلات بشأن انهيار النموذج الألماني. ففي نوفمبر الماضى وصف روبن وينكلر، كبير الخبراء الاقتصاديين في دويتشه بنك، انخفاض الإنتاج الصناعي الألماني بأنه: "الانحدار الأكثر وضوحا" في تاريخ ألمانيا بعد الحرب.
وفي سبتمبر الماضي حذر سيجفريد روسورم، رئيس اتحاد الصناعة الألماني، مما وصفه بمخاطر تواجه الاقتصاد الألماني، موضحا: "تلك المخاطر ليست في المستقبل، ولكن هنا والآن". وقال: إنه بحلول عام 2030، قد يختفي خُمس الإنتاج الصناعي الألمانى.
وخلال الأسبوع الماضي خفض تقرير صادر عن البنك المركزي الألماني توقعاته للنمو في 2025 من 1 % إلى ما يقرب من الصفر. وحذر من أن حرب التعريفات الجمركية الأمريكية قد تدفع الاقتصاد الألمانى إلى مرحلة الركود. وقال التقرير: إنه وفقا للافتراضات الحالية فإن ألمانيا ستنمو بنسبة 0.1 % فقط عام 2025، ولكن إذا نفذ ترامب تهديداته بفرض تعريفات جمركية 10 % على السلع الأوروبية و 60 % على الصادرات الصينية، فقد ينخفض الناتج المحلي الإجمالي الألماني بنسبة 0.6 نقطة مئوية.
بكين
تدق أجراس الإنذار في بكين، حيث تشير أحدث البيانات الصادرة عن الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، إلى أنها تكافح من أجل الوصول إلى هدفها الرسمي لتحقيق نسبة نمو 5 ٪ هذا العام، (وهو النمو الأدنى منذ 30 سنة) فى ظل توقعات بأن ينخفض النمو إلى مستويات أقل عام 2025. وأظهرت الأرقام التي صدرت في وقت سابق من هذا الأسبوع أن الإنفاق الاستهلاكي نما بنسبة 3 % فقط خلال 2024 حتى نوفمبر الماضى، وهو أقل من النسبة المتوقعة 4.6 %.
طوكيو
شهدت اليابان التى كانت لعقود مركز للنمو العالمي، معدلات نمو ضعيفة لا تتجاوز 1 % أو 2 % في أفضل الأحوال، لكن اللطمة الأعنف تمثلت فى فقدانها مكانتها كثالث أكبر اقتصاد في العالم لصالح ألمانيا، وهبوطها إلى المركز الرابع.
الفقاعة الأمريكية
على النقيض من ذلك، يبدو أن الاقتصاد الأمريكي يتقدم بسرعة كبيرة مع تدفق الأموال إلى أسواقه المالية. وفى حين أن هناك تفاؤلا بأن الولايات المتحدة ستستمر في المضي قدما بقوة، فإن التحذيرات تتعالى، ففي مقالة حديثة بعنوان: "أم كل الفقاعات"، وصف روتشير شارما، رئيس شركة روكفلر الدولية لإدارة رؤوس الأموال، التدفق غير العادي للأموال إلى وول ستريت بأنه صعود استثنائي. وقال إن ما يحدث هو أن المستثمرين العالميين يقدمون أكبر قدر من رأس المال لأمريكا، ونتيجة لهذا فإنها تمثل ما يقرب من 70 % من مؤشر سوق الأسهم العالمية الرائدة، ارتفاعا من نسبة 30 % في فترة الثمانينيات. وأشار إلى إن انفصال القطاع المالي عن الاقتصاد الحقيقي الأساسي يتجلى بوضوح في حقيقة مفادها أن حصة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي تبلغ 27 %. وأضاف: "إن قوة جذب الولايات المتحدة في أسواق الدين العالمية والأسواق الخاصة أقوى من أي وقت مضى. فحتى قرب نهاية عام 2024 ضخ الأجانب رؤوس أموال في الديون الأمريكية بمعدل سنوي قدره تريليون دولار، وهو ما يقرب من ضعف التدفقات فى منطقة اليورو، كما اجتذبت الولايات المتحدة 70 % من التدفقات إلى سوق الاستثمارات الخاصة البالغة 13 تريليون دولار". وقال شارما إن أمريكا تهيمن تماما على عقول المستثمرين العالميين لدرجة لم يسبق لها مثيل.
وتابع قائلا: كل هذه الأمور تؤكد أن الفقاعة الأمريكية باتت في مرحلة متقدمة للغاية، موضحا أن الخلل في الاقتصاد الأمريكى يتمثل فى إدمانه المتزايد بشكل حاد على الديون. وأن الأمر يتطلب الآن ما يقرب من 2 دولار من الديون الإضافية لتوليد دولار إضافي من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة زيادة 50 ٪ خلال السنوات الخمس الماضية.
وأضاف: لو قامت أي دولة أخرى بالإنفاق بهذه الطريقة، فإن المستثمرين سوف يهربون، ولكنهم حاليا يعتقدون أن أمريكا يمكن أن تفلت من أى عقاب باعتبارها الاقتصاد الرائد في العالم ومصدر العملة الاحتياطية. وختم بالقول: هناك عامل آخر يغذي الفقاعة الأمريكية وهو اعتقاد بعض قطاعات الأسواق المالية بأن حرب التعريفات الجمركية التي يخوضها ترامب، وخاصة ضد الصين، ستجلب آثارا مفيدة للاقتصاد الأمريكى.
اعتماد متبادل
انتقد المحلل ستيفن روتش، الرئيس السابق لمورجان ستانلي آسيا، الفكرة التى تقول: إن حرب التعريفات التى يخوضها ترامب، ستجلب آثارا إيجابية لأمريكا، قائلا: إن هناك وجهة نظر خاطئة مفادها أن العلاقة مع الصين أحادية وليست تبادلية، حيث تستفيد الصين فقط. ولكن الحقيقة أن الولايات المتحدة تعتمد أيضا بشكل كبير على السلع الصينية منخفضة التكلفة لتلبية احتياجات المستهلكين الأمريكيين محدودى الدخل. كما أن الولايات المتحدة تعتمد على الفائض الكبير في الادخار في الصين، حيث يقوم الصينيون بتحويل مدخراتهم إلى استثمارات في الأسواق المالية الأمريكية، مثل شراء السندات الأمريكية، مما يسهم في تمويل الاقتصاد الأمريكي ويسد فجوة الادخار المحلى. بالإضافة إلى أن المنتجين الأمريكيين يعتمدون على الصين باعتبارها ثالث أكبر سوق للصادرات الأمريكية. وهذا الاعتماد المتبادل يعني أن الولايات المتحدة تعتمد على الصين تماما كما تعتمد الصين على أمريكا.
الخيار الاقتصادى النووي
وتابع ستيفن روتش: لدى الصين حيازات من سندات الخزانة الأمريكية، والديون الحكومية، تبلغ قيمتها أكثر من تريليون دولار. وإذا بدأت الصين في سحب استثماراتها من سندات الخزانة الأمريكية أو توقفت عن شراء المزيد منها، فإن هذا من شأنه أن يدمر الاقتصاد الأمريكي، ومن شأنه أن يطلق العنان للفوضى في سوق السندات الأمريكية، مع أضرار جانبية مروعة في الأسواق المالية العالمية.
كما هاجم ستيفن روتش الرأي السائد بين من وصفهم بالأمريكيين المتغطرسين، بأن الصين لن تجرؤ على اللجوء لهذه الخيارات التى تشبه إلى حد بعيد "الخيار النووي"، لأن الضرر سيكون كبيرا للغاية. ورغم أن مثل هذا السيناريو بعيد الاحتمال، لأن من شأنه أن يؤدي إلى انهيار مالي عالمى، فإن من التهور تجاهل عواقب ردود الفعل الانتقامية للخصم المحاصر.