كتب: أشرف شهاب
مع توليه مهام منصبه غدا 20 يناير، ستكون صناعة السيارات الأوروبية التي تعاني من ضغوط اقتصادية كبيرة فى مرمى نيران الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فخلال حملته الانتخابية في سبتمبر الماضى أعلن ترامب صراحة أنه يسعى لتحويل شركات صناعة السيارات الألمانية إلى شركات أمريكية، مطالبا إياها ببناء مصانع داخل الولايات المتحدة بدلا من الاكتفاء بالتصدير للسوق الأمريكي. ولتعزيز هذه الأجندة كشف عقب إعلان فوزه عن خططه لفرض رسوم جمركية صارمة تتراوح بين 10 % و 20 % على جميع المنتجات الأجنبية، ما قد يشكل ضربة قاصمة للصناعات الأوروبية، وفى القلب منها صناعة السيارات التى تعانى أزمات انخفاض معدلات الطاقة الإنتاجية إلى 58 % فقط، مقارنة بـ 66 % في الولايات المتحدة و62 % عالميا، بالإضافة لانخفاض حصصها السوقية من مبيعات السيارات عالميا من 31 % عام 2008 إلى 20 % فقط فى 2023. وأدى انخفاض الحصة الأوروبية من مبيعات السيارات إلى إجبار الشركات على القيام بموجات متتالية من الإغلاقات للمصانع، وخفض طاقتها التشغيلية، وتسريح العمالة.
تسريحات جماعية
خلال العام الماضى 2024 أعلنت شركة فولكس فاجن الألمانية عن خطة تمتد حتى 2030 لتسريح 35 ألف عامل مع إغلاق كامل لثلاثة من مصانعها حول العالم، وخفض الطاقة الإنتاجية فى مصانعها بألمانيا بنحو 734 ألف سيارة بهدف توفير 15 مليار يورو سنويا. وطالبت قيادات الشركة العمال المتبقين بخفض أجورهم بنسبة 10 % والموافقة على تجميد الأجور لمدة عامين. كما أعلنت شركة بوش الألمانية لصناعة قطع غيار السيارات عن خطط تمتد حتى عام 2032 لتقليص ما يقارب 6 آلاف وظيفة. وكشفت شركة فورد الأمريكية لصناعة السيارات عن خطط لتسريح 4000 موظف من مصانعها فى ألمانيا وبريطانيا حتى نهاية 2027.
وقبلها فى فبراير 2008 أعلنت BMW الألمانية تسريح 8100 موظف. وقالت شركة "زد إف فريدريشهافين" الألمانية لصناعة مكونات السيارات: إنها تخطط لتسريح 12 ألف موظف بحلول 2030. وفى نوفمبر 2023 أكدت شركة تصنيع قطع غيار السيارات الألمانية "كونتيننتال" عزمها تخفيض آلاف الوظائف كجزء من خطة لتوفير 400 مليون يورو سنويا بدءا من عام 2025.
وتشير تقارير شركة "ماكينزي" الاستشارية إلى خطر خسارة أوروبا نحو 400 مليار دولار من سوق صناعة السيارات بحلول عام 2035، أي ما يعادل نحو 36 % من حصتها السوقية الحالية بسبب انهيار قدراتها التنافسية وتخلفها في تطوير الإلكترونيات والبرمجيات، وهي عصب صناعة السيارات الحديثة.
التخلف عن الركب
على مدار عقود من الزمن احتلت صناعة السيارات مكانة محورية في الاقتصاد الأوروبي، وخصوصا الألمانى، حيث أسهمت فى إنتاج قيمة مضافة 1.9 تريليون دولار عام 2023، أى نحو 6 % من إجمالي الناتج المحلي الأوروبي، ووفرت وظائف لنحو 14 مليون عامل، ما يعادل 6 % من القوى العاملة في القارة. وتميزت بتفوقها فى إنتاج المحركات التقليدية، وجنت منها، وما زالت مليارات الدولارات. ولكن هذه الميزة على وجه التحديد كانت هى السبب الرئيسى فى تعرضها للانهيار.
فى كتابه عن الاقتصاد الألماني بعنوان: "انكسار.. نهاية المعجزة الألمانية"، أشار المحلل الاقتصادى فولفجانج مونشاو، إلى أن النجاح الذى حققته الشركات الألمانية فى المحركات التقليدية دفعهتم إلى الاستمرار فى نفس الطريق بدلا من الاستعداد للقفزة التكنولوجية التالية.
فى نفس الوقت، كانت الشركات الصينية تستثمر بكثافة فى المركبات الكهربائية وتقنيات البطاريات. ونمت السوق الصينية بسرعة، وهى الآن، وبفارق كبير، أكبر سوق للسيارات الكهربائية، حيث تباع نحو 75 % من المركبات الكهربائية حول العالم فى الصين، مما وفر أساسا قويا للشركات الصينية، مثل BYD، للتوسع بسرعة والهيمنة على السوق العالمى للمركبات الكهربائية.
كانت الحقيقة الواضحة للعيان هى أن المحركات الكهربائية تمثل تغييرا جذريا كاملا، ولهذا السبب أثبتت الشركات الجديدة ذات الخبرة فى مجال البرمجيات، وإنتاج البطاريات، وإنتاج الهواتف الذكية، مثل: Xiaomi و Huawei قدرتها على اقتحام الأسواق الجديدة، لتتفوق على عمالقة الصناعة التقليديين. والواقع أن الهيمنة التى تتمتع بها الصين ودول جنوب شرق آسيا على إنتاج كل شيء مرتبط بأشباه الموصلات، جنبا إلى جنب مع هيمنة الولايات المتحدة على كل ما يتصل بالبرمجيات والخدمات عبر الإنترنت، أدت إلى تخلف صناعة السيارات الأوروبية عن الركب.
نقص الاستثمار
فى سبتمبر الماضى، أصدر رئيس البنك المركزى الأوروبى السابق ماريو دراجى، تقريرا تحت عنوان: "مستقبل التنافسية الأوروبية"، يسلط الضوء على مدى تأخر الاقتصاد الأوروبى الأوروبى فى الاستثمار. واقترح دراجى أن أوروبا ستحتاج إلى 800 مليار يورو إضافية سنويا فى الاستثمارات العامة والخاصة، وهو ما يعنى 4.5 % استثمارات إضافية من الناتج المحلى الإجمالي، وهذا فى وقت تحاول فيه معظم الحكومات والشركات البحث عن طرق لخفض الإنفاق أساسا.
وأوضح دراجى، أن أوروبا تأخرت عن الولايات المتحدة والصين. ففى الفترة الممتدة من 1997 إلى 2019، نمت القيمة المقدرة لكل موظف من رأس المال والأصول الإنتاجية بنسبة 50 % فى الولايات المتحدة، من 197 إلى 293 ألف دولار. وفى الصين، ارتفعت 800 %، من 11 إلى 87 ألف دولار. وتنفق الشركات الأمريكية حاليا 1.6 تريليون دولار على الاستثمار فى الآلات والمصانع، والبحث والتطوير، فيما تنفق نظيراتها الأوروبية مجتمعة 900 مليار دولار فقط.
أزمة الطاقة
ومما زاد من وقع الأزمة تعرض الصناعات الأوروبية لارتفاع أسعار الطاقة، فبسبب ارتفاع أسعار الكهرباء كانت الصناعات تميل إلى استخدام الغاز كمصدر رئيسى للطاقة، وكان الغاز الروسى الرخيص متاحا بكميات وفيرة.
ولكن منذ حرب أوكرانيا قطعت أوروبا عن نفسها الغاز الروسي، مما كان له تأثيرات مدمرة على الصناعات، وانخفاض الإنتاج. وحتى ما قبل حرب أوكرانيا، فى عام 2019، كان الاستثمار فى إنتاج الطاقة والبنية الأساسية الأوروبية يقارب نصف الاستثمار الأمريكى 420 مليارا مقابل 260 مليار دولار. أما الصين فاستثمرت بمفردها فى نفس العام 560 مليار دولار منها 154 مليارا فى الطاقة المتجددة. واعتبارا من 2024، زادت الاستثمارات الأوروبية فى الطاقة إلى 450 مليار دولار سنويا، لكنها ما زالت بعيدة بفارق كبير عن الصين التى استثمرت خلال نفس العام 850 مليار دولار.
وكان هذا الافتقار إلى الاستثمار فى الطاقة أحد الأسباب التى جعلت الشركات الأوروبية غير قادرة على مجاراة نظيراتها الصينية، فظلت كميات الإنتاج صغيرة ومكلفة. وعلى العكس استفادت الصناعة الصينية من اقتصاديات الإنتاج الضخم Mass Production. وباتت الصين تمتلك حاليا أكثر من 60 % من حصة السوق العالمى فى الألواح الشمسية ومكوناتها.
مغامرة نورث فولت
من خلال تفوقها فى سوق الإلكترونيات والسيارات سيطرت الصين سيطرة شبه كاملة على سوق بطاريات الليثيوم المستخدمة فى كل شيء تقريبا، من الهواتف الذكية إلى أنظمة تخزين الكهرباء المرتبطة بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وضمنت الشركات الصينية السيطرة على سوق البطاريات بقيادة شركتى BYD و CATL. وعندما حاولت أوروبا تدارك الموقف، والعودة إلى الساحة عام 2016 من خلال شركة نورث فولت Northvolt السويدية لصناعة البطاريات، واستثمرت البنوك والحكومات وشركات السيارات 4 مليارات يورو فيها. واشترت جولدمان ساكس الأمريكية 20 ٪ من أسهمها، وفولكس فاجن 20 ٪ أخرى. وبسرعة، توسعت الشركة من مصنع وحيد فى السويد إلى عدة مصانع فى ألمانيا والولايات المتحدة. ولكن الشركة لم تتمكن من جنى أى أرباح. وفى العام الماضي، خسرت 5 يورو مقابل كل يورو من المبيعات. واتضح فى النهاية أنها غير قادرة على تغطية تكاليف إنتاج البطاريات المبيعة. ولحل هذه المشكلة، زادت من حجم أعمالها لتحقيق معادلة اقتصاديات الإنتاج الضخم. ويبدو أن هذا الهدف الطموح كان القشة التى قصمت ظهرها، فتكبدت خسارة 1.2 مليار دولار، ثم أعلنت إفلاسها فى 21 نوفمبر الماضى.