بقلم: د.م.سعيد عشرى
يواجه العالم نوعا جديدا من الحروب حرب غير متضمنة لصواريخ أو دبابات أو جنودا، ولكنها بالقدر نفسه من الخطورة؛ إنها الحرب السيبرانية. إذ تتعرض الحكومات والشركات بشكل متزايد لهجمات القراصنة المستهدفة لكل شيء من إيقاف لشبكات الكهرباء، تعطيل للأنظمة المصرفية والمالية، إيقاف لإمدادات الطاقة مرورا بالعمليات الانتخابية. ولم تعد هذه التهديدات حكرا على الجماعات الإجرامية الساعية لسرقة الأموال.
بل أصبحت أسلحة فعالة فى السياسة العالمية، حيث تستخدم الدول الهجمات السيبرانية لإضعاف خصومها، ونشر معلومات مضللة، والسيطرة على بنى تحتية حيوية. ومع اتساع ساحة المعركة الرقمية أصبحت الدبلوماسية السيبرانية من أهم الأدوات لمنع الفوضى والحفاظ على استقرار العلاقات الدولية. إن المخاطر كبيرة، فعلى عكس الحروب التقليدية فغالبا ما تنفذ الهجمات إلكترونية من قبل جهات مجهولة الهوية ومن أى مكان وعادة لا تترك دليلا واضحا عن المسئول عنها ما يصعب على الدول الاستجابة بفعالية وهو ما يثير أيضا مخاوف من خروج هذه الصراعات عن نطاق السيطرة. لقد تطورت وتزايدت الهجمات الإلكترونية فى السنوات الأخيرة، ما أثر على الحكومات والشركات فى جميع أنحاء العالم ووفقا للتقرير الصادر عن NETSCOUT عام 2024م فقد زادت الهجمات الالكترونية العالمية بنسبة 12 % فى النصف الأول من العام مع ارتفاع الهجمات ذات الدوافع السياسية بنسبة 25 % فى المناطق التى تشهد توترات جيوسياسية. ومع تصاعد وتيرة التهديدات أدركت الحكومات حول العالم أن الأمن السيبرانى لم يعد مجرد قضية تخص خبراء التكنولوجيا بل إنه أصبح جزءا أساسيا من الأمن القومى والدبلوماسية الدولية، وبرز بشكل فعال دور الدبلوماسية السيبرانية فى استخدام المفاوضات والتحالفات لإدارة هذا النوع من التهديدات. فنجد أن الأمم المتحدة أقرت مؤخرا معاهدة عالمية بشأن الجرائم السيبرانية هدفها وضع قواعد دولية واضحة بشأن ما يشكل أنشطة سيبرانية غير قانونية إلا أن هذه المعاهدة أثارت جدلا واسعا، إذ ترى بعض منظمات حقوق الإنسان أنها قد تستخدم من قبل الحكومات الاستبدادية لتبرير رقابة الإنترنت وقمع حرية التعبير. واتخذ الاتحاد الأوروبى أيضا خطوات لتعزيز دفاعاته السيبرانية، بإنشاء “مجموعة أدوات للدبلوماسية السيبرانية” تمكن الدول الأعضاء من الرد جماعيا على التهديدات السيبرانية ما يعنى إمكانية فرض عقوبات دبلوماسية أو اقتصادية على المهاجم. كما ركزت الولايات المتحدة بالقدر نفسه على الدبلوماسية السيبرانية، حيث أطلقت مكتبا جديدا للفضاء السيبرانى والسياسة الرقمية فى عام 2022م لتنسيق الجهود الدولية فى مجال الأمن السيبرانى والحوكمة الرقمية. وعلى الرغم من هذه المبادرات فلا يزال تنظيم الفضاء السيبرانى مهمة معقدة، فمن التحديات الرئيسة غياب اتفاق عالمى حول معايير الأمن السيبرانى. فبينما تنادى دول كالولايات المتحدة وحلفاؤها بإنترنت حر ومفتوح، تطالب دول كالصين وروسيا بنموذج مبنى على سيطرة الدولة وفرض قيود صارمة على المحتوى الرقمى. يصعب هذا الانقسام الجوهرى وضعَ قواعدَ عالمية للأمن السيبرانى؛ ما يؤدى إلى عالم تتبع فيه المناطق المختلفة معاييرَ مختلفة ويستغل مجرمى الإنترنت هذه الثغرات القانونيةَ للعمل عبر الحدود. وحتى عند إمكانية تتبع الهجمات الإلكترونية على بلد محدد، فإن الاعتبارات السياسية والاقتصادية غالبا ما تمنع اتخاذ إجراءات حازمة. لذا فإن الحكومات بحاجة إلى اتباع نهج أقوى، يجمع بين الضغط الدبلوماسى وإستراتيجيات دفاعية سيبرانية أكثر صرامة.
بات العالم الرقمى لا يقل أهمية عن العالم المادى وحمايته تتطلب إجراءات عاجلة، ودون نهج موحد سيبقى هذا الفضاء ساحة فوضوية نشطة لمجرمى الإنترنت والدول المارقة دون خوف من العواقب. لقد بدأ بالفعل سباق تأمين المستقبل الرقمى، ولن يكون مستعدا للحروب القادمة إلا من سيستثمر فى الأمن السيبرانى والتعاون الدولى وفى ذلك فليتنافس المتنافسون.