بقلم: محمود عبد العظيم
هم فتية آمنوا بصندوق النقد إلها للرأسمالية العالمية، انضووا فى نهاية السبعينيات من القرن الماضى تحت لواء مدرسة شيكاغو للاقتصاد.
طرحوا أفكارا جديدة، كانت براقة ولامعة فى حينها، ثم تبلورت هذه الأفكار لتصنع توجها وتيارا جديدا.
الفكرة الرئيسية لديهم كانت أن صندوق النقد الذى جرى إنشاؤه بعد صمت مدافع الحرب العالمية الثانية كجزء من نظام عالمى جديد صاغته اتفاقيات “بريتون وودز” ويضم كلا من البنك الدولى ومنظمة التجارة العالمية هى أن هذا الصندوق يجب أن يتغير دوره من آلية للتدخل والإنقاذ ودعم الاقتصادات الفقيرة ومنع انهيارها إلى دور جديد يتمثل فى أن الصندوق يجب أن يكون أداة رئيسية فى يد النظام الرأسمالى العالمى. بمعنى دفع البلدان التى يقدم لها الصندوق خدماته وتمويلاته إلى الانخراط فى الرأسمالية العالمية بعيوبها وحسناتها بغض النظر عما إذا كانت هذه البلدان مؤهلة اجتماعيا أو اقتصاديا أو حتى ثقافيا لمثل هذا الانخراط وبغض النظر أيضا عما قد يترتب على هذا الانخراط من خلل أو اضطراب اجتماعى أو انتشار الفقر والبطالة أو ضرب للبنى الهيكلية للاقتصادات التقليدية القائمة فى هذه المجتمعات ومنها الاقتصاد الزراعى أو التجارة المحلية أو حتى عمليات التصنيع التقليدية القائمة التى كانت تلبى احتياجات البشر فى هذه البلدان لحساب فتح أبواب الاستيراد للبضائع من الخارج وغيرها من الأفكار التى تفضى فى نهاية المطاف إلى الدخول فى “كماشة “ نقص العملات الأجنبية والعجز المزمن فى موازين المدفوعات فى معظم البلدان التى ابتلعت هذه “الوصفة” الشريرة.
وبمرور الوقت نجح هؤلاء الفتية –الذين صكت الأدبيات الاقتصادية العالمية لهم مصطلح “أولاد شيكوغو”– فى التسلل إلى المواقع القيادية فى صندوق النقد والبنك الدولى وبدأوا فى تصميم وصياغة سياسات تنفيذية لأفكارهم، ومن ثم جرى التحول الكبير فى دور الصندوق وكذلك صورته لدى شعوب العالم ليصبح بمنزلة المندوب السامى للنظام الرأسمالى العالمى ويحظى بحالة من عدم الترحيب وحصره فى دائرة “الدواء المر” الذى يتعين على المريض تناوله أملا فى شفاء قد يحدث أو قد لا يحدث.
ما هى إذن مناسبة هذا الحديث؟
المناسبة هى تلك المعركة التى تخوضها مصر مع صندوق النقد بهدف عدم الاستسلام لأفكار “أولاد شيكاغو” التى بعضها يضر أكثر مما ينفع وتتمسك على نحو كبير بمقترحات البرنامج الإصلاحى الذى تقدمت به للصندوق قبل توقيع اتفاق التمويل الأخير، بينما يسعى الصندوق جاهدا لدفع الحكومة المصرية إلى تبنى بعض الإجراءات غير المرغوب فيها، الأمر الذى تبدى فيه الحكومة رفضا واضحا لهذه الإجراءات فى تصريحات صادرة عن رأس الدولة الذى أكد فى أكثر من مناسبة أن الحكومة لن تنفذ مطالب الصندوق إذا تعارضت مع مصالح والأوضاع الاقتصادية للشعب أو تضر بالأمن القومى للبلاد.
وما يبرهن على صحة المسار الذى تتبناه الحكومة خاصة فى العامين الأخيرين تحت اشتداد وطأة الأزمة الاقتصادية فى تعاملها مع الصندوق هى تلك المؤشرات الأخيرة للاقتصاد الكلى سواء على صعيد نمو رصيد الاحتياطى الأجنبى أو تراجع معدل التضخم أو صعود حجم الفائض الأولى فى الموازنة أو حتى النمو البطىء لكن بثبات لمجمل الصادرات السلعية.
وإذا كانت المراجعة الأخيرة من جانب الصندوق وصرف الشريحة المستحقة من البرنامج التمويلى سوف يترتب عليها بعض الإجراءات القاسية فى الفترة القادمة ومنها ما أعلنه رئيس الحكومة الدكتور مصطفى مدبولى عن بدء إلغاء دعم الوقود باستثناء السولار والبوتاجاز المنزلى، فإنه من المهم فى هذه المرحلة التمسك بثوابت السياسية التفاوضية مع الصندوق فى رفض توصيات وأفكار “أولاد شيكاغو” حفظا للسلام الاجتماعى والاستقرار الاقتصادى فى البلاد.