رئيس مجلس الإدارة
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير
إيمان عراقي

اتصالات

الاتصال عبر الأقمار الصناعية.. تغطية عالمية بلا حـــــــدود

12-5-2025 | 13:58

كتب: أشرف شهاب

 

فى عالم باتت فيه الاتصالات شريانا للحياة الاقتصادية والاجتماعية، ما زالت هناك مناطق كثيرة على وجه الأرض تعانى من عزلة رقمية خانقة. لكن يبدو أن هذه المناطق المظلمة، والمظلومة، على وشك أن تنقرض مع الانتشار المتسارع لتكنولوجيا الاتصال عبر الأقمار الصناعية، التى تعد بثورة شاملة فى مفهوم التغطية الشاملة والاتصال العالمي.

 

 

من الهامش إلى المركز

 

قبل سنوات كان استخدام الأقمار الصناعية للاتصال محصورا فى مجالات متخصصة مثل البث التلفزيونى أو الاستخدامات العسكرية، لكن مع تقدم التكنولوجيا، وانخفاض تكاليف الإطلاق، ودخول لاعبين جدد على غرار «سبيس إكس» و»أمازون» و»ون ويب»، تغيرت المعادلة جذريا. لم تعد الأقمار مجرد وسيلة هامشية تكميلية، بل أصبحت خيارا استراتيجيا أمام الحكومات وشركات الاتصالات لتوسيع التغطية وتجاوز معضلة البنية التحتية الأرضية.

 

تشير التقارير الحديثة الصادرة عن جمعية مشغلى الهواتف المحمولة العالميةGSMA ، إن الاتصال الفضائى سيكون من أبرز اتجاهات سوق الاتصالات المستقبلية، خاصة فى الدول النامية والمناطق النائية، حيث تواجه الألياف الضوئية وشبكات الجيل الخامس (5G) تحديات تضاريسية أو اقتصادية.

 

وأشار تقرير أصدرته مؤسسة Grand View Research إلى أن حجم سوق الاتصالات عبر الأقمار الصناعية العالمى وصل إلى نحو 83.29 مليار دولار أمريكى فى عام 2023. ومن المتوقع أن ينمو بمعدل نمو سنوى مركب 10 % من عام 2024 حتى عام 2030 نظرا للطلب المتزايد على أنظمة الأقمار الصناعية عالية الإنتاجية (HTS)، التى توفر سعة وسرعات بيانات أكبر بكثير مقارنة بالأنظمة التقليدية، إذ تتيح نقل البيانات بشكل أسرع وأكثر كفاءة مما يجعلها مثالية للتطبيقات التى تتطلب نطاقا تردديا واسعا، مثل بث الفيديو والاستشعار عن بعد واتصالات إنترنت الأشياء (IoT).

 

الإنترنت من السماء

 

تعتمد التقنية على شبكة من الأقمار الصناعية ذات المدار المنخفض، التى تحلق على ارتفاعات تتراوح بين 500 إلى 2000 كم فوق سطح الأرض. وتقوم هذه الأقمار بإرسال واستقبال البيانات من وإلى محطات أرضية أو مباشرة إلى المستخدمين، عبر أجهزة استقبال صغيرة يمكن تركيبها بسهولة فى أى مكان، وذلك بعكس الأقمار التقليدية ذات المدار الجغرافى الثابت، حيث تتميز الأقمار الصناعية ذات المدار المنخفض بانخفاض زمن تأخير الإشارات، وسرعات نقل بيانات عالية، ما يجعلها قادرة على تقديم خدمة إنترنت تكاد تضاهى فى الأداء خدمات النطاق العريض الأرضية.

 

المنافسة تشتعل

 

فى مقدمة المشهد العالمى تأتى شركة «سبيس إكس» عبر مشروعها الطموح «ستارلينك»، الذى يهدف إلى نشر أكثر من 42 ألف قمر صناعى لتغطية الكرة الأرضية بالكامل بالإنترنت. وقد بدأت بالفعل فى تقديم الخدمة فى عدد من الدول، بما فى ذلك مناطق معزولة فى ألاسكا وكندا وإفريقيا. أما شركة «أمازون» فتسير بخطى متسارعة عبر مشروع «كويبر» (Kuiper)، الذى حصل على الضوء الأخضر لإطلاق آلاف الأقمار الصناعية خلال السنوات المقبلة، مع خطط لتوفير خدمات الإنترنت للأفراد والمؤسسات بأسعار تنافسية.

 

كما دخلت دول مثل الصين والهند والاتحاد الأوروبى على خط السباق، مدفوعة بأهداف استراتيجية تتعلق بالأمن القومى والسيادة الرقمية، فقد أطلقت الصين فى الأول من إبريل الجاري قمرا اصطناعيا تجريبيا لتكنولوجيا الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية إلى الفضاء من مركز جيوتشيوان لإطلاق الأقمار الاصطناعية في شمال غرب الصين على متن صاروخ حامل من طراز «لونج مارش-2 دي»، ودخل المدار المخطط له بنجاح. ويتم استخدام الأقمار الاصطناعية التجريبية لتكنولوجيا الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية بشكل أساسي لإجراء عمليات التحقق والتجارب التقنية، بما فيها اتصالات النطاق العريض من الهواتف المحمولة إلى الأقمار الاصطناعية ودمج الشبكات الفضائية بنظيرتها الأرضية. وهذه ليست المرة الأولى فقد سبق وأن أطلقت الصين فى 30 مارس الماضي قمرا اصطناعيا جديدا لاختبار تكنولوجيا الاتصالات.

الصين ومصر وإفريقيا

 

كما أبرمت الصين 20 اتفاقية مع دول إفريقية أولها مصر من أجل إطلاق أقمار صناعية حول القارة وقدمت لدول إفريقية أقمارا صناعية كهدية. وخلال زيارة الرئيس شي جين بينج إلى مصر في يناير عام 2016، وقعت الصين ومصر على اتفاقية بشأن المنحة المقدمة من الحكومة الصينية إلى الحكومة المصرية المتمثلة في إنشاء مركز لتجميع واختبار الأقمار الصناعية فى مصر، وبدأ تنفيذ الاتفاقية في عام 2017. وفي عام 2019، وقع البلدان على اتفاقية المنحة الصينية المتمثلة في مشروع القمر الصناعي مصر سات 2، وبدأ تنفيذها في نفس العام.

 

وفى عام 2023 بدأ تشغيل مصنع الأقمار الصناعية الصينية في مصر كواحد من استراتيجيات برنامج الفضاء الصينى، وكجزء من حزمة من تقنيات الفضاء التي أهدتها الصين لمصر، حيث يضم المركز اثنين من أقوى التليسكوبات في العالم، بالإضافة إلى قمرين صناعيين لرصد الأرض أتم إطلاقهما عام 2023 أحدهما تم تجميعه فى مصر، والثانى فى الصين. بالإضافة إلى ذلك أطلقت الصين في ذلك العام قمرا صناعيا ثالثا صيني الصنع لصالح مصر، وهو قادر على إجراء عمليات مراقبة عسكرية دقيقة وفق الخبراء. كما تبرعت الصين بأقمار صناعية خلال السنوات الماضية لعدد من الدول الإفريقية تحت شعار: «المساعدات الفضائية».

 

وبالإضافة إلى المشروعات الفضائية الصينية مع مصر، قامت الصين بإطلاق قمرين صناعيين لإثيوبيا وأنشأت محطة أرضية هناك بين عامى 2019 و2021، وأطلقت بالتعاون مع السودان قمرا صناعيا عام 2019. كما تستضيف ناميبيا قاعدة مراقبة فضائية صينية تأسست عام 2021. ومع نيجيريا، أطلقت الصين قمرين صناعيين عامى 2007 و 2011 وأطلقت مع الجزائر قمرا صناعيا عام 2017، وأسست مع تونس عام 2018 محطة فضائية أرضية لدعم الاتصالات والإنترنت، والمراقبة الزراعية ومعرفة بيانات الطقس والتربة والرطوبة، بالإضافة إلى بعض التطبيقات العسكرية، كرصد التحركات غير المشروعة عبر الحدود.

 

سد فجوة الاتصال

 

التحدى الأكبر الذى تسعى تقنيات الاتصال عبر الأقمار الصناعية لمعالجته هو سد فجوة الاتصال بين المدن الكبرى والمناطق الريفية أو النائية، ففى الوقت الذى يتمتع سكان العواصم بسرعات عالية وخدمات رقمية متكاملة، يعانى ملايين البشر فى المناطق النائية من الانقطاع أو الضعف الشديد فى شبكات الاتصالات، ما يحرمهم من التعليم عن بعد، الرعاية الصحية الرقمية، وفرص العمل الحديثة.

 

وفقا لتقديرات البنك الدولي، فإن توسيع نطاق الإنترنت عالى السرعة ليشمل الجميع يمكن أن يسهم فى زيادة الناتج المحلى الإجمالى العالمى بنسبة 1.5 % سنويا، ويخلق ملايين الوظائف الجديدة. من هنا يصبح الاتصال الفضائى أداة تنموية بامتياز، وليس مجرد حل تقني.

 

التحديات

 

رغم الآفاق الواسعة لمستقبل الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، لا تخلو الرحلة من تحديات. فالكلفة لا تزال مرتفعة نسبيا للمستخدمين الأفراد فى بعض الدول، رغم أنها آخذة فى الانخفاض مع توسع الشبكات واشتداد المنافسة. كما أن التشريعات الوطنية والدولية ما تزال بحاجة إلى التحديث لمواكبة هذا التحول، خصوصا فى ما يتعلق بحقوق الطيف الترددي، والتراخيص، والخصوصية.

 

وهناك مخاوف تقنية تتعلق بازدحام المدار الأرضى المنخفض، وزيادة خطر التصادم بين الأقمار الصناعية، بالإضافة إلى التأثير المحتمل على أجهزة الفلك والرصد الفضائي، وهى قضايا بدأت تثير قلق العلماء والمنظمات البيئية.

 

لحظة تحول

 

هذه التطورات السريعة تفرض على شركات الاتصالات الأرضية التقليدية والمحمولة ضرورة إعادة التفكير فى نماذج أعمالها. فبدلا من اعتبار الأقمار الصناعية تهديدا، بدأت العديد من الشركات بالدخول فى شراكات مع مزودى الخدمة الفضائية، لتوفير حلول هجينة تجمع بين الألياف واللاسلكى والفضاء. فعلى سبيل المثال، دخلت شركة «تى موبايل» الأمريكية فى شراكة مع «ستارلينك» لتوفير تغطية فى المناطق التى لا تصلها شبكات الجيلين الرابع والخامس، باستخدام هواتف عادية دون الحاجة لأجهزة استقبال متخصصة.

 

عالم بلا مناطق معزولة

 

فى ضوء هذه المعطيات من المتوقع أن تصبح خدمات الاتصال الفضائى جزءا لا يتجزأ من البنية التحتية الرقمية العالمية خلال السنوات الخمس المقبلة، ليس فقط كحلول طارئة أو مؤقتة، بل كجزء أصيل من منظومة الاتصالات. كما من المتوقع أن تلعب دورا محوريا فى دعم قطاعات حيوية مثل النقل الذكي، الزراعة الذكية، الرعاية الصحية عن بعد، والطوارئ، إلى جانب دورها فى تمكين الاقتصاد الرقمى فى الدول الأقل نموا حول العالم فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

 

من العزلة إلى الربط

 

لقد دخل العالم عصرا جديدا من الاتصالات لا تحكمه الكابلات ولا تعيقه الجبال أو الصحارى أو البحار، فالأقمار الصناعية تنقلنا من مفهوم الشبكات المحلية إلى مفهوم الشبكة الكونية الشاملة التى تتيح لكل إنسان على وجه الأرض فرصة الاتصال والمشاركة فى الاقتصاد الرقمي. وإذا كان الاتصال فى يوم ما امتيازا محدودا، فإنه اليوم يتحول بفضل هذه التقنية إلى حق عالمى لا يعترف بالحدود ولا بالجغرافيا.

 

اخر اصدار