رئيس مجلس الإدارة
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير
إيمان عراقي

مقالات

منظمة التجارة العالمية وحل النزاعات التجاريـــــة

14-5-2025 | 14:32

بقلم : ا‭.‬د‭. ‬محمد‭ ‬البنا

فى‭ ‬10‭ ‬أبريل‭ ‬2025‭ ‬احتفلت‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬بالذكرى‭ ‬الثلاثين‭ ‬لتأسيسها،‭ ‬حين‭ ‬تم‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬اتفاقية‭ ‬مراكش‭ ‬المنشئة‭ ‬لمنظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬123‭ ‬دولة‭ ‬فى‭ ‬15‭ ‬أبريل‭ ‬1994،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬نشأة‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬فى‭ ‬1‭ ‬يناير‭ ‬1995،‭ ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬السنوات‭ ‬الثلاثين‭ ‬الماضية،‭ ‬ساعدت‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬فى‭ ‬تحقيق‭ ‬توسع‭ ‬كبير‭ ‬فى‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية،‭ ‬بهدف‭ ‬رفع‭ ‬مستويات‭ ‬المعيشة‭ ‬وزيادة‭ ‬فرص‭ ‬العمل‭ ‬وتعزيز‭ ‬التنمية‭ ‬المستدامة،‭ ‬وأسهمت‭ ‬فى‭ ‬مكافحة‭ ‬الفقر‭ ‬فى‭ ‬شتى‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬النامى‭.‬

 

وفى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تقريبا‭ ‬بدأت‭ ‬الصين‭ ‬نزاعا‭ ‬فى‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬بشأن‭ ‬“الرسوم‭ ‬الجمركية‭ ‬المتبادلة”‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وطلبت‭ ‬إجراء‭ ‬مشاورات‭ ‬فى‭ ‬المنظمة‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بشأن‭ ‬التدابير‭ ‬الأمريكية‭ ‬التى‭ ‬تفرض‭ ‬رسوما‭ ‬جمركية‭ ‬إضافية‭ ‬بنسبة‭ ‬10‭ % ‬على‭ ‬الواردات‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬شركائها‭ ‬التجاريين‭ ‬اعتبارا‭ ‬من‭ ‬5‭ ‬أبريل‭ ‬الحالى،‭ ‬ورسوما‭ ‬جمركية‭ ‬إضافية‭ ‬بنسبة‭ ‬34‭ % ‬على‭ ‬الواردات‭ ‬من‭ ‬الصين،‭ ‬والتى‭ ‬من‭ ‬المقرر‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬حيز‭ ‬التنفيذ‭ ‬فى‭ ‬9‭ ‬أبريل،‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬تعميم‭ ‬الطلب‭ ‬على‭ ‬أعضاء‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬فى‭ ‬8‭ ‬أبريل‭.‬

وتزعم‭ ‬الصين‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬تتعارض‭ ‬مع‭ ‬التزامات‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بموجب‭ ‬أحكام‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬الاتفاقية‭ ‬العامة‭ ‬للتعريفات‭ ‬الجمركية‭ ‬والتجارة‭ (‬الجات‭) ‬لعام‭ ‬1994،‭ ‬واتفاقية‭ ‬تقييم‭ ‬الجمارك،‭ ‬واتفاقية‭ ‬الدعم‭ ‬والتدابير‭ ‬التعويضية،‭ ‬وبناء‭ ‬على‭ ‬قواعد‭ ‬المنظمة‭ ‬تتيح‭ ‬المشاورات‭ ‬للأطراف‭ ‬فرصة‭ ‬لمناقشة‭ ‬المسألة‭ ‬وإيجاد‭ ‬حل‭ ‬توافقى‭ ‬دون‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬التقاضى‭. ‬وبعد‭ ‬60‭ ‬يوما،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تسفر‭ ‬المشاورات‭ ‬عن‭ ‬تسوية‭ ‬النزاع،‭ ‬يجوز‭ ‬للصين‭ ‬طلب‭ ‬الفصل‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬لجنة‭ ‬خاصة‭.‬

قالت‭ ‬المديرة‭ ‬العامة‭ ‬أوكونجو‭ ‬إيويالا‭ ‬إنه‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬تسببه‭ ‬التوترات‭ ‬التجارية‭ ‬بين‭ ‬أكبر‭ ‬اقتصادين‭ ‬فى‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬عدم‭ ‬اليقين‭ ‬التى‭ ‬تكتنف‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية،‭ ‬فإنها‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تؤكد‭ ‬أهمية‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬باعتبارها‭ ‬ركيزة‭ ‬أساسية‭ ‬للتنبؤ‭ ‬بالاقتصاد‭ ‬العالمى،‭ ‬ومنصة‭ ‬للحوار‭ ‬والتعاون‭ ‬فى‭ ‬مجال‭ ‬التجارة،‭ ‬وأشارت‭ ‬أيضا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المخاوف‭ ‬المفهومة‭ ‬والمشروعة‭ ‬بشأن‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬والنظام‭ ‬التجارى‭ ‬متعدد‭ ‬الأطراف،‭ ‬والتى‭ ‬أعرب‭ ‬عنها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأعضاء‭ ‬مؤخرا،‭ ‬ينبغى‭ ‬اعتبارها‭ ‬فرصة‭ ‬“لتحسين‭ ‬النظام”‭.‬

المخاطر‭ ‬العالمية‭ ‬نتيجة‭ ‬التوترات‭ ‬التجارية

تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التعريفات‭ ‬الجمركية‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬أداة‭ ‬لزيادة‭ ‬الإيرادات‭ ‬العامة‭ ‬أو‭ ‬لحماية‭ ‬الصناعات‭ ‬المحلية‭ ‬“الناشئة‭ ‬عادة”،‭ ‬ولكنها‭ ‬فى‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬تعد‭ ‬أداة‭ ‬سياسية‭ ‬ذات‭ ‬عواقب‭ ‬واسعة‭ ‬النطاق‭. ‬ورغم‭ ‬ما‭ ‬تتمتع‭ ‬به‭ ‬الحماية‭ ‬الجمركية‭ ‬من‭ ‬جاذبية‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬القصير،‭ ‬فإنها‭ ‬قد‭ ‬تحجب‭ ‬التكاليف‭ ‬طويلة‭ ‬الأجل،‭ ‬نظرا‭ ‬لما‭ ‬تسببه‭ ‬من‭ ‬ارتفاعات‭ ‬فى‭ ‬الأسعار‭ ‬المحلية،‭ ‬وتراجع‭ ‬القدرة‭ ‬التنافسية‭ ‬للمنتجات‭ ‬القابلة‭ ‬للتصدير،‭ ‬والإضرار‭ ‬بالتعاون‭ ‬الدولى،‭ ‬خاصة‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬تتزايد‭ ‬فيه‭ ‬التوترات‭ ‬التجارية،‭ ‬وتواجه‭ ‬فيه‭ ‬مبادئ‭ ‬نظام‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬متعدد‭ ‬الأطراف‭ ‬مراجعات‭ ‬شاملة‭.‬

ويشكل‭ ‬تصاعد‭ ‬التوترات‭ ‬التجارية‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والصين‭ ‬تهديدا‭ ‬كبيرا‭ ‬بحدوث‭ ‬انكماش‭ ‬حاد‭ ‬فى‭ ‬تجارة‭ ‬السلع‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬الاقتصادين‭ ‬قد‭ ‬تنخفض‭ ‬بنسبة‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬80‭ %‬،‭ ‬وكما‭ ‬أشارت‭ ‬أنجوزى‭ ‬أوكونجو‭ ‬إيويالا،‭ ‬المديرة‭ ‬العامة‭ ‬لمنظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬المتبادل‭ ‬بين‭ ‬أكبر‭ ‬اقتصادين‭ ‬فى‭ ‬العالم‭ -‬اللذين‭ ‬تمثل‭ ‬تجارتهما‭ ‬الثنائية‭ ‬نحو‭ ‬3‭ % ‬من‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭- ‬قد‭ ‬يحمل‭ ‬تداعيات‭ ‬أوسع‭ ‬نطاقا‭ ‬تلحق‭ ‬ضررا‭ ‬بالغا‭ ‬بالتوقعات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬العالمية،‭ ‬ولن‭ ‬تقتصر‭ ‬الآثار‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الكلية‭ ‬السلبية‭ ‬على‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والصين،‭ ‬بل‭ ‬ستمتد‭ ‬إلى‭ ‬اقتصادات‭ ‬أخرى،‭ ‬وخاصة‭ ‬الدول‭ ‬الأقل‭ ‬نموا‭.‬

كما‭ ‬قد‭ ‬تؤدى‭ ‬تلك‭ ‬التوترات‭ ‬إلى‭ ‬تجزئة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬جيوسياسية،‭ ‬وانقسام‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمى‭ ‬إلى‭ ‬كتلتين،‭ ‬وسيؤثر‭ ‬سلبا‭ ‬على‭ ‬الناتج‭ ‬المحلى‭ ‬الإجمالى‭ ‬الحقيقى‭ ‬العالمى‭ ‬بنحو‭ ‬7‭ % ‬فى‭ ‬الأجل‭ ‬الطويل‭ (‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬بيان‭ ‬رسمى‭ ‬9‭ ‬أبريل‭ ‬2025‭). ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬قد‭ ‬تسفر‭ ‬هذه‭ ‬التوترات‭ ‬عن‭ ‬التعجيل‭ ‬بجهود‭ ‬الإصلاح‭ ‬التى‭ ‬تتعلق‭ ‬بتهيئة‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬للمستقبل،‭ ‬والسعى‭ ‬لتحسين‭ ‬نظام‭ ‬التجارة‭ ‬متعدد‭ ‬الأطراف،‭ ‬واتخاذ‭ ‬إجراءات‭ ‬تصحيحية‭ ‬استشرافية،‭ ‬فى‭ ‬مجال‭ ‬المراقبة‭ ‬والشفافية‭ ‬والمفاوضات‭ ‬وتسوية‭ ‬المنازعات‭.‬

مستقبل‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية

رغم‭ ‬المخاوف‭ ‬التى‭ ‬تثيرها‭ ‬التوترات‭ ‬التجارية‭ ‬الحالية‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬التجارة‭ ‬متعدد‭ ‬الأطراف،‭ ‬فإن‭ ‬أهمية‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬تتجاوز‭ ‬التعريفات‭ ‬الجمركية،‭ ‬حيث‭ ‬تقدم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المنافع‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العالمى،‭ ‬وتدعيم‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬والنمو‭ ‬الاقتصادى‭ ‬ومكافحة‭ ‬الفقر‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬حيث‭ ‬ساعدت‭ ‬عبر‭ ‬تاريخها‭ ‬فى‭ ‬انتشال‭ ‬1‭.‬5‭ ‬مليار‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬براثن‭ ‬الفقر‭ ‬المدقع‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1995،‭ ‬وأسهمت‭ ‬نجاحاتها‭ ‬التاريخية‭ ‬خاصة‭ ‬خفض‭ ‬التعريفات‭ ‬الجمركية‭ ‬فى‭ ‬زيادة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬30‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬أمريكى‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬2023‭.‬

وقد‭ ‬حدث‭ ‬تطور‭ ‬كبير‭ ‬فى‭ ‬بيئة‭ ‬وطبيعة‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمى‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1947،‭ ‬حين‭ ‬أقرت‭ ‬الاتفاقية‭ ‬العامة‭ ‬للتجارة‭ ‬والدفع‭ (‬الجات‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬قبل‭ ‬30‭ ‬عاما‭ ‬مع‭ ‬انطلاقة‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬1995،‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وأوروبا‭ ‬واليابان‭ ‬تهيمن‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمى،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬الصين‭ ‬قد‭ ‬انضمت‭ ‬بعد‭ ‬لمنظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ (‬نوفمبر‭ ‬2001‭ ‬أى‭ ‬بعد‭ ‬15‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬إنشاء‭ ‬المنظمة‭) ‬بينما‭ ‬صارت‭ ‬القوة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬العالمية‭ ‬اليوم‭ ‬موزعة‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬أوسع‭ ‬بكثير،‭ ‬كما‭ ‬أصبح‭ ‬العالم‭ ‬اليوم‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدا،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬آنذاك،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬تهميش‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬أو‭ ‬السماح‭ ‬لها‭ ‬بالانزلاق‭ ‬إلى‭ ‬حافة‭ ‬التهميش‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التقاعس‭ ‬أو‭ ‬الجمود‭ ‬سيكون‭ ‬خطأ‭ ‬فادحا‭.‬

وبالتالى‭ ‬يظل‭ ‬لمنظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمى‭ ‬دور‭ ‬أساسى‭ ‬فى‭ ‬صميم‭ ‬نظام‭ ‬التجارة‭ ‬متعدد‭ ‬الأطراف‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬القواعد،‭ ‬والذى‭ ‬يوفر‭ ‬نظاما‭ ‬تجاريا‭ ‬عالميا‭ ‬قابلا‭ ‬للتنبؤ،‭ ‬وشفافا،‭ ‬وغير‭ ‬تمييزى،‭ ‬ومنفتحا‭.‬

اخر اصدار