اعداد: أشرف شهاب
لم تكن مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسي، فى احتفالات عيد النصر الثمانين بالعاصمة الروسية موسكو يوم 9 مايو الجاري، مجرد حضور بروتوكولى لفعالية تاريخية، بل حملت بين طياتها إشارات دبلوماسية واضحة ورسائل سياسية عميقة تعكس طبيعة العلاقة الخاصة التى تربط القاهرة وموسكو منذ عقود. فاللقاء الذى جمع الرئيس المصرى بنظيره الروسى فلاديمير بوتين، على هامش هذه المناسبة التى تخلد ذكرى الانتصار على النازية فى الحرب العالمية الثانية، لم يكن سوى مشهد جديد فى مسلسل طويل من العلاقات المصرية الروسية التى ولدت من رحم الصراع العالمي، وتطورت على مدار أكثر من سبعة عقود، لتأخذ أشكالا متعددة من التعاون السياسى والاقتصادى والعسكري.
لقد مثل هذا اللقاء، وما صاحبه من مباحثات موسعة وتوافقات استراتيجية، محطة جديدة فى مسار شراكة تعود جذورها إلى خمسينيات القرن الماضي، حين مدت موسكو يدها إلى القاهرة فى لحظة تاريخية فارقة، دعمت خلالها طموحات الاستقلال والتنمية فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولا سيما من خلال تمويل وبناء مشروع السد العالي. ومنذ ذلك الحين، شهدت العلاقة بين البلدين تحولات كبرى، انسجمت أحيانا مع السياقات الدولية، واصطدمت أحيانا أخرى بتقلبات الجغرافيا السياسية، لكنها حافظت دوما على خيوط من التواصل والمصالح المتبادلة.
واليوم، فى ظل عالم تتسارع فيه التحولات وتتشكل فيه تحالفات جديدة، تعود القاهرة وموسكو لتجديد شراكتهما عبر مشاريع اقتصادية ضخمة، كتدشين المنطقة الصناعية الروسية فى شرق بورسعيد، ومحطة الضبعة النووية، والتنسيق داخل تجمع «بريكس». وتكتسب هذه الشراكة أبعادا جديدة مع حرص القيادة السياسية فى كلا البلدين على توظيف التاريخ المشترك فى صياغة مستقبل من التعاون متعدد الأوجه.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرحب بالرئيس عبد الفتاح السيسي خلال زيارته لموسكو
التوازن الذكي
تتسم العلاقات المصرية الروسية بمرونة براجماتية وعمق استراتيجى يتجاوز الشعارات الدبلوماسية، لتأخذ شكلا من أشكال التوازن الذكى فى خيارات السياسة الاقتصادية. فالتاريخ يعيد نفسه كاستراتيجية واعية، إذ تعود القاهرة إلى موسكو وموسكو إلى القاهرة كلما ضاقت الخيارات أمامهما مع الغرب.
فمنذ خمسينيات القرن الماضي، شكلت العلاقات الاقتصادية بين مصر والاتحاد السوفيتى نقطة ارتكاز أساسية فى مسار التنمية الوطنية. كان مشروع السد العالى رمزا لهذا التحالف التنموي، وجاء فى أعقاب تراجع الولايات المتحدة والبنك الدولى عن تمويل المشروع بسبب رفض القاهرة التماهى مع الرؤية الغربية لحلف بغداد وسياسات التحالفات.
وعلى مدار العقود الماضية، شكلت العلاقات الاقتصادية بين البلدين ركيزة أساسية فى سياساتهما، حيث لعبت دورا محوريا فى تحقيق الأهداف الاقتصادية والتنموية لكلا الطرفين. ومنذ الحقبة السوفيتية وحتى يومنا الحالى، تحولت روسيا إلى شريك اقتصادى رئيسى لمصر فى مجالات عدة، من التجارة إلى الاستثمار فى مشاريع البنية التحتية والطاقة.
ومع تصاعد التحديات الاقتصادية العالمية، باتت هذه العلاقة أكثر أهمية من أى وقت مضى، إذ تعكس توجه مصر نحو تنويع شراكاتها الاقتصادية لمواجهة المتغيرات الدولية وتقليل الاعتماد على القوى الاقتصادية التقليدية، انطلاقا من مصالحها التنموية والاستراتيجية. وفى هذا الإطار، برزت روسيا، الوريث التاريخى للاتحاد السوفيتي، كشريك اقتصادى مؤثر على مدار عقود، فى علاقة تعكس تقارب المصالح وتوازنات الجغرافيا السياسية.
نقطة البداية

تعود جذور التحالف الاقتصادى بين القاهرة وموسكو إلى منتصف خمسينيات القرن العشرين، حين قررت مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس فى يوليو 1956، مما أغضب القوى الغربية الاستعمارية، التى سرعان ما ردت بالعدوان الثلاثي. وقرار الولايات المتحدة والبنك الدولى الانسحاب من تمويل المشروع فى يوليو 1956. كانت مصر كانت فى أمس الحاجة إلى التمويل والتكنولوجيا لتحقيق مشاريعها التنموية الطموحة، بينما كان الاتحاد السوفيتى يسعى لتوسيع نفوذه فى العالم العربى عبر أدوات القوة الناعمة، وعلى رأسها التعاون الاقتصادى التنموي. وتمت بلورة هذا التعاون بين البلدين فى مشروع السد العالي، الذى شكل نقطة تحول فى البنية التحتية المصرية.
وفى 27 ديسمبر 1958، تم توقيع اتفاقية بين مصر والاتحاد السوفيتي، حصلت مصر بموجبها على قرض بقيمة 400 مليون روبل لتمويل المرحلة الأولى من المشروع، وفى 27 أغسطس 1960 تم توقيع اتفاقية ثانية حصلت مصر بموجبها على قرض إضافى بقيمة 500 مليون روبل لتمويل المرحلة الثانية من المشروع. وتضمنت الاتفاقيتان تسهيلات مالية وفنية كبيرة، بما فى ذلك فترة سماح للسداد تصل إلى عشر سنوات، وفائدة سنوية منخفضة بنسبة 2.5 %. كان إجمالى الدعم السوفييتى لمصر يتجاوز 100 مليون دولار، إلى جانب إرسال الخبراء الفنيين وتوفير المعدات الثقيلة، ما جعل المشروع الذى رفضت القوى الغربية تمويله دون شروط سياسية، رمزا للتحرر الوطنى والتنمية الاقتصادية المستقلة التى لا تعتمد على التحالفات غير الغربية. ونجحت مصر فى تنفيذ المشروع الذى أسهم فى زيادة القدرة الكهربائية وتوسيع الرقعة الزراعية وتثبيت ركائز التخطيط الصناعي.
وشكل دعم موسكو للقاهرة فى مشروع السد العالى نقطة تحول استراتيجية جعلت من موسكو شريكا اقتصاديا بديلا لقوى الغرب، ومصدرًا رئيسيًا للتمويل ونقل التكنولوجيا فى المشروع الذى كانت القاهرة تعتبره جوهرة خطط الدولة المصرية لتوليد الطاقة وتنمية الزراعة والصناعة. وهذا التحول فى العلاقات بين البلدين لم يكن مجرد استجابة لأزمة تمويل، بل كان تأسيسا لفكرة أن السيادة الاقتصادية المصرية تتطلب استقلالا فى الخيارات التمويلية والتحالفية، وأن موازنة العلاقات مع الشرق والغرب قد تكون شرطا لازما لتحقيق أهداف التنمية الوطنية، وتمكين الدولة من الشروع فى برامج التصنيع والتوسع الزراعي، مما أرسى قواعد ما عرف لاحقا بـ «الاقتصاد المخطط» القائم على دور الدولة المركزى فى التنمية.

ترأس الزعيمان بوتين والسيسي جلسة مباحثات موسعة بحضور وفدي البلدين خلال الاحتفالات الروسية بعيد النصر
التصنيع أداة للتحرر الاقتصادي
لم تتوقف العلاقات الاقتصادية عند حدود توليد الطاقة الكهربائية، بل امتدت إلى تطوير قطاع الصناعات الثقيلة، وفى مقدمتها مشروع مصانع الحديد والصلب فى حلوان، الذى جسد رؤية الدولة لتوطين الصناعة وتحقيق الاكتفاء الذاتى والتحرر الاقتصادى. ومثلت هذه المشاريع بدعم سوفيتى مباشر نقلة نوعية فى بنية الاقتصاد المصري، من اقتصاد زراعى محدود إلى اقتصاد يمتلك قاعدة إنتاجية صناعية واعدة.
كما تزامن الدعم الاقتصادى مع مساعدات عسكرية واسعة النطاق، شملت توريد أسلحة وتقديم برامج تدريب، ما عزز قدرة الدولة المصرية على تحقيق نوع من الاستقلال الاستراتيجى فى مواجهة الضغوط الغربية، خاصة بعد رفضها الانضمام إلى التحالفات العسكرية المدعومة من واشنطن ولندن.
تراجع الدور الروسي
مع قدوم الرئيس أنور السادات إلى السلطة وتحول القاهرة نحو الغرب، بدأت مرحلة جديدة من السياسة الاقتصادية المصرية عنوانها الانفتاح على الولايات المتحدة، والتقارب مع المؤسسات المالية الدولية. ومع توقيع اتفاقيات كامب ديفيد فى 17 سبتمبر 1978، بدأت مرحلة من الفتور فى العلاقات بين البلدين لصالح الشراكة الاستراتيجية المصرية مع الويلات المتحدة. ورغم الطفرة التى تحققت فى التعاون العسكرى المصرى الأمريكى، لم تنجح الشراكة الاقتصادية فى إنتاج نموذج تنموى مشابه لما تحقق فى مرحلة السد العالي. إذ أصبحت المعونات الأمريكية مشروطة ومحددة الأهداف، وتوجهت نحو الاستهلاك لا البنية التحتية، مما حد من استقلالية القرار الاقتصادى المصري.
عهد مبارك
فى العقود التالية، خصوصا فى عهد الرئيس حسنى مبارك، ظلت العلاقات الاقتصادية مع روسيا (التى ورثت الاتحاد السوفيتي) محصورة فى الإطار البروتوكولى والزيارات الرسمية. وعلى الرغم من توقيع عدد من الاتفاقيات، إلا أن غياب الرؤية التنموية المشتركة، وارتباط مصر بالمعسكر الغربى اقتصاديا وماليا، حال دون أى اختراق حقيقى فى مسار التعاون الاقتصادى بين الجانبين.
عودة موسكو
مع وصول الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى سدة الحكم، دشنت مصر مرحلة جديدة فى سياستها الخارجية والاقتصادية، عنوانها: «تنويع الشراكات» وكسر نمط الاعتماد الأحادى على الحلفاء التقليديين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، والانفتاح على قوى دولية بديلة، وفى مقدمتها موسكو وبكين. وقد جاء هذا التحول فى سياق متغير إقليمى ودولى حاد، اتسم بتراجع الدور الأمريكى فى المنطقة، وتصاعد الشروط السياسية المرتبطة بالمساعدات الغربية، خصوصا فى ملفات حقوق الإنسان والاستقرار السياسي.
فى هذا السياق، وجدت روسيا التى تسعى بدورها لإعادة رسم نفوذها فى الشرق الأوسط فى القاهرة نافذة استراتيجية لإعادة التموضع، فكان التعاون العسكرى والاقتصادى الروسى مع مصر أشبه بعودة «موسكو التنموية»، فى نسخة جديدة، تختلف فى الشكل ولكنها تحمل فى طياتها نفس منطق السد العالي: «الاقتصاد كأداة للسيادة».
محطة الضبعة.. تحالف تنموى جديد
نجحت الإرادة السياسية المصرية بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى فى تحويل حلم المصريين للدخول إلى عصر الاستخدامات السلمية للطاقة النووية والذى انطلق منذ ما يقرب من 67 عامًا فى عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. ووقع الرئيس عبدالفتاح السيسى مع نظيره فلاديمير بوتين فى 19 نوفمبر 2015 اتفاقية إقامة أول محطة نووية لتوليد الكهرباء بأرض الضبعة. وتم توقيع عقد تنفيذها مع الجانب الروسي. وتتضمن 4 مفاعلات نووية من الجيل الثالث المطور، الذى يتميز بارتفاع معدلات الأمان وبساطة التصميم وانخفاض التكاليف والعمر الافتراضى الكبير الذى يصل إلى أكثر من 60 عامًا مقارنة بالمحطات الحرارية التى يقدر العمر الافتراضى لها حوالى 3 أعوام، حيث تصل الطاقة الإنتاجية للمفاعل الواحد إلى 1200 ميجاوات. ويؤهل هذا المشروع العلماء والمهندسين المصريين فى مجال تكنولوجيا المحطات النووية والأمان النووي. ويصل إجمالى تكلفة العقد 30 مليار دولار، منها 25 مليار دولار قرض روسي، سيبدأ سداده بعد تشغيل المحطة.
ويمثل المشروع تحولا نوعيًا فى السياسة المصرية للطاقة، فى ظل استراتيجية وطنية لتنويع مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على الغاز والوقود الأحفوري، بما ينسجم مع التزامات التنمية المستدامة وخفض الانبعاثات. أما من منظور روسي، فإن المشروع يعزز من مكانة موسكو فى سوق الطاقة النووية المدنية، ويكرس دورها كشريك تنموى متقدم.

الزعيمان السيسي وبوتين يشهدان توقيع عقود إنشاء محطة الضبعة
الاستثمار المشترك
عكست المشروعات التنموية بين البلدين رغبتهما فى شراكة طويلة الأمد، كما أبرزت قدرتهما على تحويل التحديات الجيوسياسية إلى فرص اقتصادية. ففى الوقت الذى تعانى فيه مصر من ضغوط اقتصادية ناتجة عن ارتفاع تكلفة التمويل الخارجي، تسعى إلى تعظيم شراكاتها مع قوى صاعدة كروسيا. وفى المقابل، تبحث روسيا، التى تواجه عزلة اقتصادية نسبية من الغرب بعد أزمة غزو أوكرانيا، عن شركاء استراتيجيين يعيدون لها نفوذها الدولي، ويمكنونها من ترسيخ حضورها فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وامتد هذا التلاقى بين الحاجات المصرية والطموحات الروسية، إلى عدة مجالات اقتصادية، يمكن تلخيص أهمها فيما يلى:
1. الاستثمارات الروسية
رغم أن حجم الاستثمارات الروسية المباشرة فى مصر لا يزال محدودا مقارنة بالشركاء الأوروبيين والخليجيين، إلا أن ما يميزها هو تركيزها النوعى على مشاريع استراتيجية ذات طابع طويل الأجل، مثل مشروع محطة الضبعة والبنية التحتية المرتبطة بها، وبعض مشاريع الطاقة والبتروكيماويات. وقد ارتفع صافى التدفقات الاستثمارية الروسية ليصل إلى 122.6 مليون دولار فى عام 2023، إلا أنه لا يزال أقل من طموحات الطرفين، اللذين يخططان لتعظيم هذا التعاون فى قطاعات جديدة مثل النقل، الصناعات التحويلية، والتكنولوجيا.
2. الأمن الغذائى
تمثل روسيا أحد أهم الشركاء التجاريين لمصر، خصوصا فى مجال الأمن الغذائي. ففى ظل تزايد هشاشة سلاسل الإمداد الدولية، ارتفعت نسبة واردات مصر من القمح الروسى من 50 % فى عام 2021 إلى 57 % فى 2022، ما يعكس اعتمادا متزايدا على السوق الروسية لتأمين السلع الاستراتيجية. وإلى جانب القمح، تستورد مصر من روسيا معدات ثقيلة وآلات زراعية وصناعية تسهم فى دعم الإنتاج المحلي، فيما تصدر إلى موسكو منتجات زراعية مثل الحمضيات والخضراوات، فى تجارة تبادلية تعزز الميزان التجارى بين الجانبين، وتحقق درجة من التوازن فى المصالح.
3. الغاز والتكامل فى قطاع الطاقة
لم يقتصر التعاون المصرى الروسى على الطاقة النووية، بل امتد إلى قطاع الغاز الطبيعي، حيث أبدت شركات روسية كبرى اهتماما متزايدا بالتوسع فى السوق المصرية، مستفيدة من موقع مصر الجغرافى كبوابة استراتيجية لإعادة تصدير الغاز إلى أوروبا، وللاستثمار فى البنية التحتية للغاز المسال. وقد عززت هذه الشراكات الطابع المتعدد الأبعاد للتعاون بين البلدين، حيث لم يعد الاقتصاد مجرد عنصر دعم سياسي، بل بات فى صلب المعادلة الاستراتيجية لكلا الطرفين.
المنحنى الجديد
أظهرت التحولات بعد 2014 أن العلاقات المصرية الروسية لم تعد تقتصر على الرمزيات التاريخية أو البعد العسكرى فحسب، بل أصبحت علاقة اقتصادية مركبة تشمل الطاقة، الغذاء، الاستثمارات، والنقل. ويمثل هذا النمط من التعاون نموذجا لدبلوماسية اقتصادية جديدة تعتمد على التحالفات التنموية متوسطة وطويلة الأجل، وهو ما يمنح القاهرة هامش مناورة أوسع فى ظل بيئة دولية تتسم بالتقلب والتعددية القطبية.
تحديات الشراكة
رغم ما تحمله العلاقات الاقتصادية بين مصر وروسيا من فرص واعدة، سواء فى مجالات الطاقة أو الغذاء أو الاستثمار المشترك، إلا أن هذه الشراكة تواجه مجموعة من التحديات التى تعرقل قدرتها على التحول إلى علاقة تكامل اقتصادى حقيقي وشامل، من أبرزها:
1. العقوبات الغربية
يعد الواقع الجيوسياسى المحيط بروسيا، خاصة بعد غزو أوكرانيا أحد العوامل المؤثرة على فعالية التعاون الاقتصادي. فقد فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى عقوبات اقتصادية واسعة النطاق على موسكو، طالت قطاعات المال والطاقة والصناعة، ما أدى إلى تراجع قدرة روسيا على ضخ استثمارات خارجية أو الدخول فى شراكات تمويلية طويلة الأمد.
وبالنسبة لمصر، فإن التعاون مع شريك يخضع لعقوبات قد يفتح ملفات شائكة، مثل صعوبة الوصول إلى تمويلات دولية لمشاريع مشتركة، أو تعقيد ترتيبات نقل التكنولوجيا والتأمين والتوريد، خاصة إذا كانت هذه المشاريع تعتمد على طرف ثالث غربي.
2. أسعار الطاقة والسلع الاستراتيجية
تؤثر تقلبات الأسعار فى الأسواق العالمية للنفط والقمح والغاز بشكل مباشر على طبيعة التبادل التجارى بين مصر وروسيا، حيث تعد هذه السلع محورُا رئيسيًا فى العلاقات الاقتصادية بين الطرفين. وبالتالي، فإن تقلبات الأسعار العالمية، سواء بسبب الحروب أو الأوبئة أو السياسات النقدية العالمية، تؤدى إلى صعوبة فى تثبيت مستويات التعاون أو بناء عقود طويلة الأجل قائمة على أسعار مستقرة وتدفقات تجارية مضمونة، مما قد يضع التعاون المصرى الروسى فى خانة التأثر الدائم بالعوامل الخارجية، ويجعل استقرار العلاقة مرهونا إلى حد كبير بالتقلبات فى السوق الدولية، وهو ما يضعف فرص التخطيط الاقتصادى المشترك.
3. التحديات النقدية والتمويلية
رغم رغبة الجانبين فى التخلص التدريجى من الاعتماد على الدولار فى التبادلات التجارية، لا تزال آليات تسوية المعاملات الثنائية باستخدام العملات المحلية (الجنيه المصرى والروبل الروسي) تعانى من عوائق فنية ومؤسسية. ويعتبر غياب سوق نقدية فاعلة بين العملتين، وضعف أدوات التحوط من مخاطر سعر الصرف، ونقص التفاهمات البنكية بين المؤسسات المالية فى البلدين، من أهم العوامل التى تضعف قدرة البلدين على تفعيل التجارة بالعملات الوطنية، وتجعل الاعتماد على الدولار واقعا مفروضا، رغم ما يحمله من كلفة تقلبات وتحديات جيوسياسية.
تجمع بريكس
تأتى مشاركة مصر فى تجمع «بريكس» كخطوة استراتيجية أخرى، تعكس توجه القاهرة نحو إعادة صياغة خريطة تحالفاتها الاقتصادية والسياسية على المستوى الدولي. فمع الانضمام إلى هذا التكتل الذى تقوده قوى كبرى مثل روسيا والصين، تسعى مصر إلى تنويع شركائها بعيدا عن التمركز التقليدى فى المحاور الغربية، والانخراط فى منظومة اقتصادية ناشئة تسعى لإعادة التوازن للنظام العالمي. وفى هذا السياق، تكتسب العلاقة مع روسيا بعدا أعمق، حيث دعمت موسكو بقوة انضمام القاهرة إلى «بريكس»، إذ ترى فى المشاركة المصرية امتدادًا لنفوذها العالمي. كما أن مشاركة مصر فى بريكس يمكن أن تعزز من فرصها فى الوصول إلى أسواق بديلة، وتمويلات تنموية مرنة، وتكنولوجيا متقدمة، مما ينسجم مع الرؤية المصرية لتعظيم الاستقلالية الاستراتيجية والانفتاح على تكتلات متعددة فى عالم يتجه نحو التعددية القطبية.
موسكو تحتفل.. والسيسى يشارك فى توجيه الرسائل للعالم

الرئيس عبد الفتاح السيسي يتابع العرض العسكري بمناسبة يوم النصر في الساحة الحمراء في موسكو
تحتفل روسيا فى التاسع من مايو كل عام بعيد النصر، الذى يعتبر أحد أبرز المناسبات الوطنية فى روسيا، ويحمل دلالات تاريخية وسياسية وثقافية عميقة تتجاوز حدود الدولة الروسية إلى المجال الدولي.
يرمز هذا اليوم إلى الانتصار على ألمانيا النازية فى الحرب العالمية الثانية (أو كما تعرف فى روسيا بـ: «الحرب الوطنية العظمى»، حيث أعلنت القيادة السوفييتية فى 9 مايو 1945 استسلام القوات النازية، بعد معارك طاحنة خلفت ملايين الضحايا من الجنود والمدنيين. ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا التاريخ جزءًا لا يتجزأ من الهوية الروسية الوطنية، تحييه موسكو بعروض عسكرية ضخمة فى الساحة الحمراء، ويشارك فيه كبار القادة الروس إلى جانب زعماء دول صديقة.
لكن عيد النصر لا يقتصر على كونه مناسبة لتكريم تضحيات الماضي، بل يتم استثماره أيضا كأداة سياسية، إذ تستغل القيادة الروسية رمزية هذا اليوم لتأكيد حضورها الدولي، وتعزيز خطابها السياسى حول الاستقلال، والسيادة، ومكانة روسيا كقوة عظمى مقاومة للهيمنة الغربية. وغالبا ما يترافق الاحتفال مع رسائل سياسية توجهها موسكو لحلفائها وخصومها على حد سواء، مما يضفى على المناسبة طابعا يتجاوز الاحتفاء التاريخى إلى التذكير بالدور الروسى فى رسم ملامح النظام العالمي.
وفى هذا السياق، تكتسب مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسى، فى احتفالات عيد النصر، أهمية رمزية تعكس عمق العلاقات الثنائية، وتوجه رسائل رمزية للعالم، وتؤكد على تحالفات استراتيجية تتشكل فى مواجهة تقلبات النظام الدولى.
تجاوز العقبات
لا يمكن بناء الشراكة الاقتصادية الناجحة على الرغبات السياسية، بل على القدرات التقنية والمؤسسية التى تتيح تجاوز العقبات المالية والتجارية وتحويل التحديات إلى فرص هيكلية للنمو المشترك. فى ضوء هذه التحديات، تبدو الحاجة ملحة إلى:
- فتح قنوات مالية جديدة تعتمد على مصارف تنموية مشتركة أو اتفاقيات مبادلة عملات.
- إنشاء آلية تسعير مرنة للسلع الاستراتيجية تحمى الطرفين من تقلبات الأسواق.
- تطوير مبادرات استثمار مشترك فى مجالات الزراعة والتكنولوجيا، تقلل الاعتماد على القطاعات الحساسة الخاضعة للعقوبات أو التذبذب.
شراكة قابلة للتوسع
إن العلاقات الاقتصادية المصرية الروسية ليست مجرد تبادل تجارى أو تعاون ثنائى محدود، بل هى جزء من معادلة توازن إقليمى ودولى تسعى مصر بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، من خلالها إلى توسيع خياراتها، وتحقيق نوع من الاستقلال الاقتصادى المرن، الذى يعيد توزيع أوراقه وفق المصالح الوطنية. وفى هذا الإطار، ستظل روسيا فاعلا مؤثرا فى المشهد الاقتصادى المصرى خلال السنوات القادمة، شريطة أن تتجاوز العلاقة النمط الكلاسيكي، وتنتقل إلى مستوى شراكة تنموية متكاملة، تسهم فى نقل التكنولوجيا، وتعزيز الإنتاج، وتوليد فرص العمل