كتب: أشرف شهاب
بينما يواصل حلف شمال الأطلسى «الناتو» تصعيده العسكرى فى مواجهة روسيا والصين، بدأت الشعوب الأوروبية تدفع ثمن هذه السياسات على أرض الواقع، فعلى خلفية قمة الناتو الأخيرة فى لاهاى، التى انعقدت يومى 24 و 25 يونيو الماضى، تحولت مفاهيم التحول الاستراتيجى نحو اقتصاد الحرب إلى أمر واقع، وتضاعفت الميزانيات الدفاعية للدول الأعضاء بوتيرة غير مسبوقة، بما فى ذلك التزامات صريحة بتخصيص 5% من الناتج المحلى الإجمالى للإنفاق العسكري.
من الواضح أن ما يجرى الإعداد له فى الكواليس الأوروبية يتجاوز مجرد سباق تسلح تقليدي. فالاتجاه العام يوحى بأن الأحزاب الحاكمة فى أوروبا بصدد تنفيذ تحول استراتيجى شامل، يغير أولويات السياسة المالية والاجتماعية بصورة جذرية. ففى ألمانيا، أعلنت الحكومة عن خطة طموحة لتضخيم ميزانيتها الدفاعية، تتضمن مضاعفة الإنفاق العسكرى ثلاث مرات خلال العقد المقبل. ومع تسارع هذا المسار، تبنى الرئيس الألمانى فرانك فالتر شتاينماير خطابا تعبويا واضحا، بدعوته لإعادة العمل بالتجنيد الإجباري، فى مؤشر واضح على الانتقال إلى حالة التعبئة الشاملة
التجنيد الإجباري
ورغم أن برلين تتصدر سباق التسلح، فإن معظم الدول الأوروبية تسير فى الاتجاه ذاته، مع تسارع زيادات الإنفاق الدفاعى على حساب موازنات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، التزاما بمقررات قمة لاهاى الأخيرة، التى دشنت فعليا تحول الناتو نحو اقتصاد الحرب. وقد بدأت المجتمعات الأوروبية بالفعل تتحمل كلفة هذا التحول، مع تصاعد الضرائب غير المباشرة واتساع الفجوة بين أولويات الحكومات واحتياجات المواطنين، وسط تغييب متزايد للإرادة الشعبية فى صناعة القرار.
تحديات هائلة
وفى سياق التصعيد السياسى والاقتصادى الذى تشهده ألمانيا، أكد المستشار الألمانى فريدريش ميرتس خلال مؤتمر صحفى يوم الجمعة 18 يوليو الماضى أن البلاد تواجه ما وصفه بتحديات اجتماعية سياسية هائلة، داعيا المواطنين إلى الاستعداد لتحمل أعباء أكبر لتمويل خدمات رعاية الشيخوخة، والصحة، والرعاية طويلة الأجل، وهى تصريحات تعكس اتجاها واضحًا نحو إعادة هيكلة نظام التأمينات الاجتماعية، فى ظل أزمات متراكمة تضغط على المالية العامة.
وكانت أحزاب التحالف الحاكم فى ألمانيا، قد تعمدت استبعاد أى إشارة إلى تقليص النفقات الاجتماعية من اتفاقها الائتلافي، وأسندت هذه المهمة إلى «لجان خبراء»!، تمهيدا لتمرير الزيادة الكبيرة فى الإنفاق العسكرى دون إثارة رفض شعبي. وكان من المقرر أن تقدم هذه اللجان تصورات لإصلاح التأمينات بحلول ربيع 2027، أى منتصف الدورة التشريعية، غير أن المستشار الألماني، دعا إلى تسريع الجدول الزمنى قائلا: «لم يعد لدينا هذا القدر من الوقت.. علينا أن نعالج المشكلات بوتيرة أسرع مما كنا نعتقد»!.
تفاقم العجز
وتكشف التقارير الرسمية عن تفاقم العجز المالى فى صناديق التأمينات الاجتماعية، بفعل عدة عوامل متشابكة، أبرزها انتشار الوظائف ذات الأجور المتدنية، واتفاقيات العمل الجماعى التى لا تواكب معدلات التضخم، فضلا عن ما يعرف بـ «المنافع غير التأمينية»، وهى التزامات يتم فرضها على مؤسسات التأمين دون رصد تمويل مواز لها. هذا المشهد المالى المعقد ينذر بتوسع سريع فى الفجوة بين الإيرادات والنفقات، ويبرر توجهات السلطات نحو فرض مزيد من التقشف الاجتماعى لتمويل السباق الدفاعى المتصاعد.
ويشهد نظاما التأمين الصحى والتقاعد فى ألمانيا تفاقما حادا فى العجز المالي، الأمر الذى يثير قلقا متزايدا فى الأوساط السياسية والاقتصادية بشأن استدامة منظومة الحماية الاجتماعية فى البلاد. فقد ارتفع عجز مقدمى التأمين الصحى الإلزامى من 1.9 مليار يورو فى 2023 إلى 6.2 مليار يورو فى 2024، ثم سجل 4.5 مليار يورو خلال الربع الأول فقط من 2025. ومن المتوقع أن يتراوح إجمالى العجز بنهاية العام الحالى بين 10 و27 مليار يورو.
ضغوط تضخمية
وتعود أسباب هذا التدهور بالأساس إلى الضغوط التضخمية، إذ ارتفعت نفقات صناديق التأمين الصحى بنسبة 6.8 % خلال هذا العام، بينما لم تزد الإيرادات، التى تعتمد بشكل رئيسى على مساهمات الأجور، سوى بنسبة 3.7 %. وفى محاولة لتعويض هذا الخلل، قامت شركات التأمين الصحى برفع نسبة المساهمة الإضافية التى يتقاسمها الموظفون وأرباب العمل من متوسط 1.7ـ% فى العام الماضى إلى 2.5 % هذا العام، مما أدى إلى تقليص فعلى للزيادات المحدودة التى حصلت عليها النقابات العمالية فى مفاوضاتها، حيث التهمت هذه الزيادة فى الأعباء التأمينية الجزء الأكبر من تلك المكاسب.
أما نظام التأمين التقاعدى الإلزامي، فليس فى وضع أفضل، إذ عادت فجوة العجز للظهور بعد سنوات من الاستقرار النسبي، مسجلا عجزًا قدره 2 مليار يورو عام 2024، مع توقعات بارتفاعه إلى 7 مليارات يورو خلال العام الحالي. وتشير التقديرات الرسمية إلى أن احتياطيات النظام مرشحة للنفاد بالكامل بحلول عام 2027 على أبعد تقدير، وهو ما ينذر بأزمة مالية واجتماعية متفاقمة فى قلب أكبر اقتصاد أوروبي.
عبء العجز
وتصر الحكومة الألمانية على تحميل المواطنين عبء العجز فى صناديق التأمينات الاجتماعية، من خلال خفض الإنفاق وزيادة الأعباء، رافضة تقديم أى دعم إضافى رغم أن مساهماتها الحالية لا تغطى سوى جزء محدود من الخدمات غير التأمينية. ويأتى هذا وسط قفزة متوقعة فى الدين العام من 2.7 إلى 3.7 تريليون يورو خلال الأعوام المقبلة، نتيجة القروض المخصصة لتعزيز الإنفاق العسكري، ما يقضى فعليا على أى زيادة محتملة فى الإنفاق الاجتماعي. ورغم الزيادات الاسمية فى المعاشات، فإن قيمتها الحقيقية تتآكل بفعل الضرائب، إذ ارتفعت نسبة الضريبة على دخل المعاشات منذ 2004 تدريجيا، وصولا إلى فرض ضريبة على 100 % من قيمتها بحلول 2040، مما يعنى عمليا إنهاء أى إعفاءات سابقة للمتقاعدين.
لا يقتصر العبء على الضرائب، إذ يتم إجبار المتقاعدين أيضا على دفع اشتراكات إلزامية للرعاية الصحية ورعاية المسنين. فمنذ بدء نظام تأمين الرعاية طويلة الأجل قبل 30 عاما، ارتفعت نسبة الاشتراك من 1 % إلى 3.6 %، وتصل إلى 4.2 % لغير المتزوجين أو غير المعيلين لأطفال. وفى سابقة لم تحدث إلا هذا العام، تم فرض مساهمة موحدة لمرة واحدة بنسبة 4.8 %، ما سيمتص نحو نصف زيادة المعاشات البالغة 3.74 %.
خط الفقر
فى ضوء هذه السياسات، يتقاضى أكثر من نصف المتقاعدين فى ألمانيا، أى ما يزيد على 10 ملايين شخص معاشا شهريا يقل عن 1100 يورو، وهو مبلغ يقع تحت خط الفقر الرسمي. وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن واحدا من كل 5 ألمان فوق سن 65 عاما بات الآن مصنفا ضمن الفئات المعرضة لخطر الفقر.
وتتمثل الخطوة التالية فى خطة التقشف الحكومية فى استهداف إعانة الدخل، التى يتم منحها للأفراد ذوى الدخل المنخفض أو المنعدم، حيث تسعى الحكومة إلى خفضها إلى الحد الأدنى لما يعرف بالأمان الأساسى قبل نهاية العام الحالى. ووفق الخطة المعلنة، سيجرى تقليص المخصصات التى بلغت 40 مليار يورو فى عام 2024 والتى تشمل المدفوعات الشهرية، ودعم الإيجارات، وتكاليف التدفئة، بصورة جوهرية ضمن حزمة تخفيضات واسعة النطاق.
مقترحات مثيرة للجدل
وفى ظل الضغوط المتصاعدة على نظام التأمينات الاجتماعية، تم طرح مقترحات مثيرة للجدل، أبرزها ما اقترحه مارسيل فراتشر، رئيس المعهد الألمانى للأبحاث الاقتصادية، بفرض رسم تضامني على جيل الطفرة السكانية (مواليد ما بين 1946 و 1964)، حيث يستهدف المقترح المتقاعدين من ذوى الدخل المرتفع، ممن ادخروا ضمن خطط تقاعد خاصة، لمطالبتهم بالتنازل عن جزء من معاشاتهم لصالح من لم يتمكنوا من المشاركة فى هذه البرامج بسبب كلفتها.
وفى الوقت نفسه، لا تمس هذه الإجراءات المقترحة أصحاب الثروات الكبرى، الذين تضاعفت مداخيلهم وثرواتهم فى السنوات الأخيرة، دون أن يكون لهم أى إسهام يذكر فى تمويل صناديق التأمينات الاجتماعية. بل إن شريحة واسعة منهم لا تدفع الضرائب من الأساس. وتشير البيانات إلى أن عدد المليارديرات فى ألمانيا بلغ 249 شخصا، فى حين وصل عدد المليونيرات إلى نحو 1.6 مليون شخص (دون احتساب قيمة الثروات العقارية السكنية)، بإجمالى ثروات تقدر بنحو 5.4 تريليون يورو.