كتبت: نسرين فوزى اللواتى
فى عالم التواصل الاجتماعى، يُشكل الاهتمام أو الانتباه العملة الأساسية، ومن ثم تصبح المنافسة شرسة. فليس من المستغرب أن يتم وصف المبدعون بأنهم «شريان الحياة للمنصة»، نظرا للدور المحورى الذى يلعبونه فى تحفيز التفاعل مع المحتوى المُلهم، أو المفيد، أو المسلى، حيث يمكن لمحتواهم أن يجذب جمهورا عريضا، يُشكل متابعوه ثقافتنا وخطابنا العام، وخاصة الأجيال الشابة. وفى حين حققت منصات التواصل الاجتماعى Social platforms نجاحا باهرا فى تحقيق الدخل من هذا المحتوى، من خلال عائدات الإعلانات والتجارة الاجتماعية المتزايدة.. إلا أنه بدون محتوى مؤثر يجذب المستخدمين، سيكون هناك خطر بفقدان الصلة بالواقع بشكل كبير.
ومع ذلك، يواجه المبدعون ضغوطا كبيرة لإنتاج محتوى مؤثر -غالبا دون دخل مضمون- ما يجعل الكثيرين يشعرون بالإحباط. والسؤال الرئيسى الذى يجب طرحه هو: إلى أى مدى ينبغى على المنصات أن تبذل جهودا لتمكين ودعم المبدعين؟ وهل المبدعون جزء من منظومة القوى العاملة فى المنصات؟ وهل معاملتهم كامتداد للقوى العاملة سيؤدى إلى مزيد من المبدعين الأكثر ولاء وأمانا، ما يُمكن المنصات من المنافسة بشكل أفضل؟ وما الدور الذى سيؤديه المحتوى المُولَد بالذكاء الاصطناعى AI-generated content؟
اقتصاد العمل الحر:
فى جميع أنحاء العالم، تُطبق الدول سياسات ولوائح لحماية العاملين بالعمل الحر أو المؤقت gig workers، الذين يعتمدون فى معيشتهم على منصات التكنولوجيا وخوارزمياتها المتغيرة باستمرار. وقد أدى ضغط عمال العمل الحر وصانعى السياسات المهتمين بالعمل، إلى طرح مجموعة واسعة من المقترحات التنظيمية، بدءا من الشفافية فى الخوارزميات وممارسات التنوع والمساواة والشمول (DEI)، وصولا إلى تصنيف عمال العمل الحر، واستحقاقات المزايا - وذلك بهدف حمايتهم من الاستغلال.
فى اقتصاد المبدعين، يُسهم عدم الاستقرار المالى ونقص الدعم المهنى التقليدى، جزئيا على الأقل، فى تزايد مخاوف المبدعين. وعلى الرغم من أن صانعى السياسات لا يركزون على المبدعين بقدر قطاعات أخرى من سوق العمل.. إلا أن هناك جدلا عاما حول حماية المبدعين وتمكينهم من حشد جهودهم فى المجال الذى يحقق لهم أكبر قيمة وإنجاز: الإبداع Creating.
القاعدة الشعبية:
هناك ملاحظة مهمة يجب أخذها فى الاعتبار: وهى حتى لو ركز صانعو السياسات على قطاعات أخرى من سوق العمل فى الوقت الحالى، فإن منصات التواصل الاجتماعى ليست بمنأى عن مخاطر السمعة. وهنا، يشهد النشاط الاجتماعى تزايدا -على نطاق واسع وفى اقتصاد المبدعين- بل يتفوق الخطاب عبر هذه المنصات على وسائل الإعلام التقليدية فى تشكيل الثقافة الشعبية.
ومن ثم، من المُرجح أن تُحمل قواعد المستخدمين، منصات التكنولوجيا مسؤولية سياساتها وممارساتها، خاصة وأن المؤثرين Influencers على وسائل التواصل الاجتماعى يتمتعون بصوت مسموع وجماهير قيَمة، ويرتبطون بشكل وثيق بأى منصة يشتهرون بها. أى قد تشهد المنصات تضافر قوى شعبية قوية لمحاسبتها، وربما يثير هذا الضغط على وسائل التواصل الاجتماعى بدوره اهتمام صانعى السياسات ويزيد من تركيزهم.
مستقبل غامض:
فى ظل حالة عدم اليقين هذه، هناك أهمية لتخطيط السيناريوهات من أجل استكشاف مستقبل مُحتمل، ورسم مسار جديد. وللمساعدة فى فهم كيفية تطور العلاقة بين المنصات والمبدعين فى المستقبل، وإلى أى مدى قد تتبع اتجاهات اقتصاد العمل الحر أو منظومة القوى العاملة بشكل عام.. يمكن اقتراح سيناريوهات مستقبلية، كالآتى:
(سيناريو 1) المبدعون المتمكنون:
سنعيش فى عالم ستحدده متطلبات المستهلك والمبدع على حد سواء.. ما سيدفع المنصات نحو قيمٍ أكثر تفردا (تحددها الجماهير المستهدفة، وغرض المنصة/علاماتها التجارية، وطبيعة/شكل المحتوى، وما إلى ذلك). ومن ثم، ينبع دعم المبدعين وخدماتهم وحمايتهم، من تشريعات سياسية ناشئة، وبالأخص التنامى المستمر للنشاط الاجتماعى ونمو اقتصاد المبدعين كجزء من سوق العمل.
(سيناريو 2) المنصات فى موقف دفاعى:
فى عالم نشهد فيه ترسيخا مستمرا للقوة عبر عدد قليل من «التطبيقات الفائقة»، ما يؤدى إلى تداخل متزايد فى السوق (الميزات، الجماهير، استراتيجيات تحقيق الدخل)، والحاجة إلى التميز المستمر لجذب المبدعين والاحتفاظ بهم. ومن ثم، ينبع دعم المبدعين وخدماتهم وحمايتهم، من حدث مُحفز قد يُشعل مناقشات وتشريعات السياسات الناشئة، مع التركيز على الحد من نفوذ شركات التكنولوجيا الكبرى. هناك مؤشرات تدل على أننا قد نتجه نحو هذا المستقبل.
(سيناريو 3) المنصات فى موقع القيادة:
فى عالم يحدده المستهلك والمبدع معا، هناك حاجة إلى التوجه نحو عروض قيمة فريدة (تحددها الجماهير المستهدفة، وغرض المنصة، وعلامتها التجارية، وطبيعة أو شكل المحتوى). وهنا، يتم تحديد دعم وخدمات المبدعين من خلال عرض القيمة الفريد للمنصة، وجماهيرها المستهدفة، والمبدعين الذين يرغبون فى جذبهم.
فى هذا الإطار، نجد أن محدودية التنظيم قد ترجع إلى غياب التوافق على سياسات، أو الاعتقاد بوجود منافسة وخيارات كافية بين المنصات، أو محدودية نمو ونطاق اقتصاد المبدعين، كشريحة من القوى العاملة، أو تجزئة مجتمع المبدعين.
(سيناريو 4): التعاون بين المنصة والمبدعين:
كما ذكرنا، فإن التنظيم مازال محدودا بسبب عدم وجود توافق على السياسات، وعدم قدرة المبدعين على مواءمة مصالحهم مع مختلف فئات المبدعين، فضلا عن محدودية نطاق اقتصاد المبدعين كشريحة من القوى العاملة، أو غياب حدث مُحفز.. كلها عوامل قد تفرض ضغوطا جديدة.
اغتنام الفرصة:
إذا كان المبدعون هم عصب النظام البيئى بأكمله، فما توقعاتهم بشأن الدعم والرفاهية وحماية العاملين؟ وإلى أى مدى ترغب المنصات فى استقطاب الأفضل؟ وما الذى ستسمح به الجهات التنظيمية؟ وهل سيؤدى غياب التوافق على السياسات إلى كبح جماح التنظيم، أم أن بؤرة توتر ثقافى أو قلق بشأن تأثير الذكاء الاصطناعى، ستحفز تدقيقا جديدا، وأخيرا، إجراءات؟! فى نهاية المطاف، وفى ظل هذه السيناريوهات المستقبلية، هناك فرصة متاحة للمنصات للتفوق على كل من المنافسة واللوائح المحتملة، من خلال التعامل مع المبدعين كجزء من منظومة عملهم، وتقديم أفضل الدعم والأدوات المتاحة.. ما يعزز ولاء المبدعين وتفاعلهم.
فى الوقت ذاته، ما هو الإبداع الجديد أو الأمان النفسى الذى يمكن تحقيقه إذا أتيحت للمبدعين إمكانية الوصول إلى فريق دعم عند ظهور أى مشاكل، بغض النظر عن عدد المتابعين؟ وما السبل الجديدة للإيرادات والنمو التى يمكن تحقيقها من خلال ولاء المبدعين وشعور أكبر بالانتماء للمجتمع، والملكية المشتركة، والاستثمار؟
أخيرا، يمكننا القول إن الإمكانات والآثار المترتبة على المنصات والمبدعين بعيدة المدى، وقد تغير مفهوم جذب أفضل المبدعين والاحتفاظ بهم فى هذه السوق المزدهرة.