كتبت: نسرين فوزى اللواتى
أدى «اقتصاد المبدعين» أو «الاقتصاد المؤثر» إلى تحولات جذرية فى طريقة إنتاج الأفراد -صُناع المحتوى- للمحتوى الرقمى وتقديمه، وكيفية إنشائهم له والاستفادة من قيمته، وكيفية تطوير مسيرتهم المهنية من خلال خوض غمار هذا المجال. ومع ذلك، ورغم الأهمية الاقتصادية لهذه الصناعة، فلا يزال مفهوم صُناع المحتوى كرواد أعمال غير واضح. ومع انتشار المبدعين، وتدفق الأموال إلى هذا القطاع لدعمهم.. يمكننا طرح تساؤل حول كيفية تصور أنشطتهم الاقتصادية، وهل يمكن اعتبار هؤلاء الأفراد رواد أعمال بالمعنى التقليدى، أم أن طبيعة عملهم تستدعى إعادة تقييم ما يعنيه أن تصبح رائد أعمال فى اقتصاد المبدعين؟
فى البداية، يمكن تعريف «رواد الأعمال المبدعين Creatrepreneurs» بأنهم الأفراد الذين يبتكرون أفكارا جديدة أو يجمعون بين مفاهيم قائمة لبناء شىء أصيل ومختلف فى عالم الأعمال (مثل ستيف جوبز، إيلون ماسك، جيف بيزوس، مارك زوكربيرج).. ما يقود إلى تحولات فى الصناعات وتوفير حلول مبتكرة للمشكلات. ويعتبر هؤلاء المبدعون بمثابة قوة دافعة للابتكار، حيث يمتلكون رؤى جريئة واستعدادا لتحمل المخاطر لتطبيق أفكارهم وتحقيق الازدهار للشركة أو للاقتصاد بشكل عام.
أهمية التمييز:
هناك 3 سمات جديرة بالملاحظة فى نموذج ريادة الأعمال الإبداعية Creatrepreneurship: الاعتماد على العلامة التجارية الشخصية، والعلاقة كمنتج بحد ذاته، والدوافع غير الاقتصادية للمبدع.
(أولا) على عكس رواد الأعمال التقليديين الذين يؤسسون شركات قد تعمل فى نهاية المطاف بشكل مستقل عن مؤسسيها، يُجسد منشئو المحتوى مشروعاتهم، ومن ثم يطمسون الحدود بين الفرد والشركة. وبما أن المبدعين عادة ما يبنون أعمالهم ومنتجاتهم حول علاماتهم التجارية الشخصية، فهم يجعلون أنفسهم جزءا لا يتجزأ من المشروع ذاته، ما يدفع الجمهور إلى ربط المشروع بالفرد الذى يقف وراءه. ومن ثم، غالبا ما يتمتع المبدعون بالملكية والسيطرة الكاملة على مشروعاتهم، وذلك على عكس رواد الأعمال التقليديين الذين يكونون أكثر انفصالا عن مشروعاتهم، ومن ثم يخضعون لقيود أصحاب المصلحة، مثل المؤسسين المشاركين أو المستثمرين.
بالطبع، تمنح هذه الميزة للمبدعين مرونة أكبر لتغيير مسار مشروعاتهم وتجربتها وتطويرها، وهو أمر بالغ الأهمية فى ظل التغيرات السريعة فى المشهد الرقمى. ومع ذلك، هناك جانب سلبى لتركيز السلطة والاعتماد على الآخرين، وهو انخفاض قابلية التوسع والإرث. ففى حين أن الشركات التقليدية قادرة على التوسع بسهولة من خلال توظيف المزيد من الموظفين أو أتمتة العمليات.
(ثانيا) عادة ما تتطور الأنشطة الريادية فى اقتصاد المبدعين -ليس فقط- حول المحتوى الرقمى الذى يتم إنتاجه ومشاركته، بل أيضا حول العلاقة التى يحافظ عليها المبدع مع جمهوره. بعبارة أخرى، فإن القيمة المقترحة التى تبقى الجمهور منخرطا ومستثمرا فى مشروع المبدع، لا تقتصر على المحتوى ذاته فحسب، بل تصبح العلاقة مع المبدع جزءا من «المنتج» الذى يستمد منه الجمهور القيمة.
(ثالثا) غالبا ما تكون طبيعة اغتنام الفرص منفصلة عن الدوافع الاقتصادية. فقد شهد الاقتصاد الإبداعى نسبة كبيرة من «رواد الأعمال الضروريين»، وهم أفراد لجأوا إلى ريادة الأعمال، لعدم حصولهم على وظيفة فى أسواق عمل أخرى.. وهى ملاحظة يُرجح أن تكون مدفوعة بانخفاض حواجز الدخول فى الاقتصاد الإبداعى، خاصة أن فرصة تحقيق ربح ستوفر حافزا للانخراط فى النشاط الريادى، بدلا من محاولة المشاركة فى أسواق العمل التقليدية. بما أنه ليس جميع المبدعين رواد أعمال بالمعنى الحرفى.
هناك أهمية لتصنيف المبدعين بشكل يضمن طموحاتهم، من حيث الوقت ونطاق العمل وحجمه، وهو ما نسميه «نموذج المشروع» الخاص بالمبدع:
(1) نموذج الهواية Hoppy model: هو نموذج يعتمد على المبدعين الذين ينخرطون فى مشروعات شغفهم بدوام جزئى، وغالبا كأعمال جانبية مع وظائف بدوام كامل. ويكون دافعهم الأساسى هو الاستمتاع الشخصى بالتعبير الإبداعى بدلا من الربح، الذى عادة ما يكون إضافيا من خلال المبيعات العرضية.
(2) نموذج الكفاف Subsistence model: يولد المبدعون دخلا ضروريا لتلبية احتياجاتهم الأساسية، وهو أشبه بامتلاك مشروع صغير أو العمل فى اقتصاد العمل المؤقت، كما أنه أكثر تفاعلا وأقل ارتباطا بالجمهور. وغالبا ما تكون أنشطتهم مدفوعة بالضرورات الاقتصادية، بدلا من الشغف أو النمو الاستراتيجى، وذلك استجابة لفقدان وظيفة أو الضائقة المالية. ونتيجة لذلك، يكون دخلهم ضئيلا، وغالبا ما يتم استعاضته بمصادر أخرى، مثل مصمم مواقع الويب المستقل.
(3) النموذج الاحترافى Professional model: حيث ينتقل المبدعون من الهواة إلى المحترفين بدوام كامل، ويتم تعريفهم وفقا لنموذج «رواد الأعمال المبدعين».. وهم يمتلكون جمهورا واسعا يكفى لتوليد (جزء كبير) من دخلهم من أعمالهم الإبداعية، والذى غالبا ما يتم تحقيقه عبر مصادر متعددة، بما فى ذلك عائدات الإعلانات، والرعاية، والاشتراكات، أو البيع المباشر. وتتراوح مشروعاتهم بين المتوسطة والكبيرة، ويستثمرون بشكل استراتيجى لاقتناص الفرص وتنمية جمهورهم، وغالبا ما يتطلب ذلك موارد ضخمة. وهنا، يندرج العديد من صُناع المحتوى على يوتيوب أو البودكاست الذى يكسبون عيشهم من محتواهم، ضمن هذه الفئة.
(4) نموذج المجتمعات المتخصصة Niche community model: يمكن اعتباره فئة فرعية من النموذج الاحترافى، حيث يركز المبدعون على بناء مجتمع مترابط حول اهتمام أو مجال محدد. كما ينصب التركيز على عمق التفاعل، بدلا من اتساع النطاق أو النمو. يتمتع هؤلاء المبدعين بدخل مستدام، يأتى من عضويات المجتمع، والمحتوى الحصرى، والفعاليات. من الأمثلة: المدونون المتخصصون أو منشئو المحتوى على منصات (مثل ديسكورد).
(5) نموذج الفرصة الزائلة An ephemeral opportunity model: يصف المبدعين المحترفين الذين يكتسبون شهرة مفاجئة عبر قنوات أخرى، ويستغلون هذا الاهتمام المؤقت بهم لبناء حضور على منصات التواصل الاجتماعى، على غرار نموذج رواد الأعمال المبدعين. على سبيل المثال: غالبا ما يكتسب المشاركون فى برامج التلفزيون أو مسابقات المواهب، شهرة واسعة خلال فترة ظهورهم على الهواء، ثم يستغلون شعبيتهم الجديدة لبدء مسيرة مهنية على منصات التواصل الاجتماعى.
(6) نموذج منصة الإطلاق Launchpad model: يستخدم المبدعون نجاحهم الأولى على منصة ما، كمنصة لفرص ريادية أكبر، مثل بدء أعمالهم الخاصة القابلة للتوسع حول محتواهم أو دخول عالم الإعلام السائد. وينصب تركيزهم على تسريع النمو، والذى غالبا ما يتجاوز حدود المنصة، مع الاستعانة بفريق عمل لتحقيق ذلك. على سبيل المثال: «المؤثر Influencer» الذى ينتقل إلى شركة إعلامية، أو «المبدع» الذى يطور حسابه ليصبح عملية متعددة الأشخاص، كالمبدع التعليمى.
(7) نموذج المشاهير المتفوقين Leapfrogged celebrity model: يسعى المبدعون إلى تسريع مرحلة بناء مجتمعهم، من خلال استغلال شهرتهم وشعبيتهم الأولية التى اكتسبوها خارج منصات التواصل الاجتماعى، مثل الرياضة والتلفزيون والموسيقى، لجذب هذا الجمهور إلى مشروعهم الخاص بالمحتوى الرقمى. يتيح هذا النموذج لمنشئى المحتوى، تنويع أعمالهم فى أشكال محتوى رقمى مختلفة، وتوسيع نطاق علامتهم التجارية وجمهورهم. على سبيل المثال: اللاعب العالمى «كريستيانو رونالدو» الذى اكتسب شهرة فى البداية من خلال مسيرته الكروية، ثم نجح فى استغلال تلك الشهرة لبناء حضور قوى على وسائل الاجتماعى.
مقومات النجاح:
إذا اعتبرنا المبدعين، من نواحٍ عديدة، رواد أعمال، فمن البديهى أن نطرح تساؤلا حول العوامل التى تسهم فى نجاحهم الريادى. وهنا، تجدر الإشارة بأن قياس ريادة الأعمال ليس بالأمر السهل، وقد يشمل مؤشرات مالية وغير مالية. ببساطة، يمكن تعريف نجاح ريادة الأعمال على أنه الاستمرار فى إدارة الأعمال والتواجد فى السوق على المدى القصير.
وبتطبيق ذلك على الإبداع، يُعرف النجاح بأنه حصول المبدع على أجر كافٍ لمواصلة إنشاء المحتوى كمسعى احترافى، حيث يشمل الأجر تكلفة الفرصة البديلة، وقسطا من السيولة مقابل الوقت ورأس المال، وقسطا من المخاطرة مقابل عدم اليقين الناتج عن أنشطة إنتاج المحتوى.
والسؤال هنا، ما العوامل الرئيسية التى تسهم فى تمكين المبدعين من الانخراط فى أنشطة إنشاء المحتوى بروح ريادة الأعمال؟
(1) العوامل الفردية: التى تحدد أسباب وتوقيت وكيفية نشأة الفرص لمنشئى المحتوى. ومن بين هذه العوامل، يتم التمييز بين عوامل البنية التحتية، والعوامل المالية.
(2) العوامل الفردية: والتى يتم تقسيمها بدورها إلى العوامل الشخصية والاجتماعية والديموغرافية التى تحدد لماذا، ومتى، وكيف يكتشف بعض الأفراد هذه الفرص فى اقتصاد المبدعين دون غيرهم.. وأساليب العمل التى يختارها المبدعون لاستغلال هذه الفرص. فى هذا الإطار، يمكن تصنيف المشروعات الداعمة للمبدعين ضمن خمس فئات، كالآتى:
