كتبت: نسرين فوزى اللواتى
فى عالم أصبح فيه الإبداع عملة والتأثير قوة، يُمثل ما يُعرف بـ«اقتصاد المبدعين Creator economy» أو «الاقتصاد البرتقالى Orange economy»، أو «اقتصـــــاد صانـــــع المحتوى Content creator economy»، ثـــورة رقميـــــــة تُمكن الأفراد من تحويل شغفهم إلى ربح، وهو مصطلح يشير إلى البيئة التى يُنتج فيها الأفراد محتواهم أو منتجاتهم أو خدماتهم، ويسوقونها ويحققون دخلا منها، وذلك بالاعتماد بشكل رئيسى على المنصات والتقنيات الرقمية.
وقد بدأ اقتصاد المبدعين فى الازدهار بفضل انتشار الإنترنت، إلى جانب انخفاض تكلفة الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية وارتفاع جودتها بشكل كبير. واعتمد هذا النظام البيئى على قيام «المبدعين Creators» بتحميل المحتوى إلى منصات التكنولوجيا، التى يمكنها مواصلة التفاعل مع مستخدمى المنصة، بهدف تقديم إعلانات برمجية، أو مدفوعة بالبيانات، ما أدى إلى مكاسب إيرادات هائلة لمنصات التكنولوجيا. ومع مرور الوقت، بدأ هؤلاء المبدعون فى كسب حصة من عائدات الإعلانات التى كانت تحتفظ بها المنصات.
وهنا، تتفاوت حصة الإيرادات بين المنصات بشكل كبير.. على سبيل المثال، يدفع «يوتيوب» للمبدعين 55 % من عائدات الإعلانات التى يحققونها من محتواهم، بينما يقدم «تويتش» برنامج حوافز متدرج للمبدعين الذين يديرون الإعلانات، ويتم تحديده إما بنسبة 30 % من صافى إيرادات الإعلانات، وإما بنسبة 55 % من صافى إيرادات الإعلانات إذا تم عرض المزيد. وقدمت منصات فيسبوك وإنستجرام وتيك توك وسناب شات التابعة لشركة ميتا، أنواعا مختلفة من البرامج التى تشارك إيرادات الإعلانات مع منشئى المحتوى، أو تحدد مبلغا ثابتا من المال، مثل صندوق منشئى المحتوى التابع لتيك توك.
العمود الفقرى:
ويشمل هذا العديد من المبدعين creators، بما فى ذلك الأفراد، كالشخصيات البارزة والفنانين والكُتاب والمُعلمين، الذى ينتجون المحتوى وينشرونه عبر منصات الإنترنت. ويُمثل هؤلاء المبدعون العمود الفقرى لاقتصاد المبدعين.. فبدونهم لما كان هناك محتوى لهذا الاقتصاد، إضافة إلى المنصات التى تعتمد على هذا المحتوى لجذب قاعدة المستخدمين والاحتفاظ، حيث تعد هذه المنصات أساسية، لأنها تتيح للمبدعين الوصول إلى جمهورهم وكسب المال من أعمالهم، باستخدام استراتيجيات متنوعة، مثل الإعلانات والاشتراكات والرعاية وبيع المنتجات. وهنا، تُمثل أسواق المبدعين أو اقتصادهم، تطورا فى إنشاء المواد واستخدامها وتحقيق الربح منها، ما يتيح للأفراد إطلاق مسيرتهم المهنية.
وقد يطلق على «المبدعين» أسماء أو تصنيفات إضافية متنوعة، بعضها يعتمد على المنصة التى ينتمون إليها أو نوع المحتوى الذى ينشئونه. على سبيل المثال: منشئو الإنترنت، منشئو المحتوى، المؤثرون Influencers (الذين يستخدمون نفوذهم ضمن شبكة قائمة أو مجتمعهم الخاص للترويج للمنتجات والخدمات)، مستخدمو يوتيوب Youtubers أو ما يُعرف بـ Vtubers، منشئو البث المباشر Streamers (الذين يركزون على البث المباشر لألعاب الفيديو والفعاليات)، منشئو البودكاست Podcasters، المدونون Bloggers، مدونو الفيديو Vloggers (الذين ينشرون مدونات فيديو عن حياتهم الحقيقية أو نسخة خيالية منها)، المعلمون أو منشئو الدورات التدريبية.
تحول جذرى:
لقد أحدث «اقتصاد المبدعين»، الذى يُمكن الأفراد ويشجع على إنشاء المحتوى Content creation، تغييرا جذريا فى المشهد الرقمى.. فهو يؤثر على الشركات القائمة، مثل الصحافة والترفيه والتسويق الإلكترونى، من خلال إتاحة وجهات نظر وأساليب سرد قصصية متنوعة. فى الوقت ذاته، توفر المنصات الرقمية Digital platforms وأساليب تحقيق الأرباح للمبدعين مصادر دخل متعددة، مثل المنتجات الرقمية ومبيعات التجزئة والإعلانات والرعاية والاشتراكات.
أيضا، يُحفز الاقتصاد الإبداعى Creative economy الابتكار من خلال تشجيع التجريب والبحث عن أشكال جديدة، فضلا عن تأثيره الاقتصادى الكبير، لأنه يُعزز توزيع الثروة والنمو الاقتصادى وتوفير فرص عمل جديدة. لذا، من المتوقع أن تزداد أهمية اقتصاد المبدعين مع تطور التقنيات الرقمية، وتغيير الصناعات، وتشجيع الابتكار والإبداع والتوسع الاقتصادى. وفقا لذلك، هناك أهمية لفهم استراتيجيات وتقنيات إنشاء المحتوى، وتحديدا اقتصاد المحتوى.

فيما يلى بعض الجوانب الحيوية لاقتصاد المبدعين التى يجب معرفتها:
(1) تمكين الأفراد: بفضل اقتصاد المبدعين، يمكن للأفراد تأسيس علاماتهم التجارية ومشروعاتهم عبر الإنترنت، دون الحاجة إلى دعم الجهات الفاعلة التقليدية، مثل الناشرين وشركات التسجيلات واستوديوهات الإنتاج. كما يمكن للمبدعين التواصل مباشرة مع الجمهور عبر المنصات الرقمية المختلفة.
(2) فرص متنوعة لتحقيق الربح: يمكن للمبدعين الاستفادة من المحتوى الذى ينتجه المستخدمين بطرق مختلفة، بما فى ذلك عائدات الإعلانات، والرعاية، ومبيعات المنتجات، والاشتراكات الرقمية، والتبرعات، وعروض المحتوى الحصرية. ومن خلال النمو، يمكن للمنتجين إنشاء مصادر دخل متكررة تناسب جمهورهم المستهدف وأسلوب محتواهم.
(3) التفاعل المجتمعى: غالبا ما يبنى منشئو الفيديو الناجحين، روابط قوية مع جمهورهم، ويبنون مجتمعات حول محتواهم.. فجانب مشاهدة المحتوى، يتفاعل المنتجون مع جمهورهم عبر وسائل البث المباشر، وجلسات الأسئلة والأجوبة، والأحداث الخاصة، والتعليقات.
(4) ديناميكيات المنصات: تختلف خطط تحقيق الدخل، وإحصاءات الجمهور، وخوارزميات المنصات المختلفة فى اقتصاد المبدعين. ومن ثم، يحتاج المبدعون فى كثير من الأحيان إلى فهم هذه الديناميكيات لتعديل محتواهم وأساليب تحقيق الدخل الخاصة بهم بشكل مناسب.
(5) التأثير على الصناعات التقليدية: أحدث صعود اقتصاد المبدعين ثورة فى الصناعات التقليدية، مثل الإعلام والترفيه.. ما دفع العلامات التجارية إلى التعاون مع المبدعين بشكل متزايد فى حملات التسويق المؤثر Influencer marketing، بينما تسعى شركات الإعلام التقليدية إلى تكيف استراتيجياتها للتنافس فى المشهد الرقمى.
(6) الاتجاهات المستقبلية: يشهد اقتصاد المبدعين تطورا مستمرا، مدفوعا بالتقدم التكنولوجى، وتغير سلوكيات المستهلكين، والتحولات فى ديناميكيات المنصات. تشمل الاتجاهات الرئيسية التى يجب متابعتها: صعود المجتمعات المتخصصة، ودمج الواقع الافتراضى والواقع المعزز فى إنشاء المحتوى، واستكشاف نماذج جديدة لتحقيق الربح (مثل، الرموز غير القابلة للاستبدال NFTs).
التطور والنمو:
يُمثل اقتصاد المبدعين Creator economy نقلة نوعية فى إنشاء المحتوى وتوزيعه وتحقيق الدخل منه، مدفوعة بالتطورات التكنولوجية وسلوك المستهلك والمنصات الرقمية. وقد أسهمت منصات التواصل الاجتماعى، مثل يوتيوب وإنستجرام، فى إضفاء طابع ديمقراطى على إنشاء المحتوى، موفرة أدوات سهلة المنال للمبدعين لمشاركة المحتوى مع الجمهور العالمى. وشجعت فرص تحقيق الدخل، مثل مشاركة عائدات الإعلانات وشراكات المحتوى المدعوم، المبدعين على استثمار المزيد من الوقت والموارد فى بناء حضورهم الإلكترونى. وظهرت أدوات خاصة بالمبدعين، بما فى ذلك منصات التحليلات، وأنظمة إدارة المحتوى، وخدمات توصيل البضائع، ومنصات التمويل الجماعى.
أصبح التسويق المؤثر Influencer marketing صناعة بمليارات الدولارات، حيث تتعاون العلامات التجارية مع المبدعين للترويج لمنتجاتها وخدماتها. ومع تشبع المنصات الرقمية بالمحتوى، يركز المبدعون بشكل متزايد على مواضيع ومجتمعات متخصصة للتفاعل مع شرائح جمهور محددة. كما تشمل البنية التحتية لاقتصاد المبدعين: وكالات المواهب، وشركات الإدارة، والمنصات المخصصة للمبدعين، ما يساعدهم على التعامل مع الجوانب القانونية والمالية والتجارية.
الجهات الفاعلة:
يشمل اقتصاد المبدعين مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة، ولكل منها دور حاسم فى تطويره وتشغيله.. من أبرز هذه الجهات:
(1) المبدعون والمؤثرون Creators and Influencers: يُشكل الأفراد الذين يقدمون المحتوى لمختلف المنصات الرقمية، أساس اقتصاد المبدعين.. سواء كانوا منشئى بودكاست، أو مدونين، أو مستخدمين على إنستجرام أو تيك توك، أو يوتيوبرز، أو مقدمى بودكاست، فإن هؤلاء المنتجين يقدمون موادا تتواصل مع جمهورهم.
(2) المنصات: تمكن المنصات الرقمية منتجى المحتوى من نشر أعمالهم ومشاركتها وتحقيق الربح منها.. حيث توفر هذه المنصات للمبدعين الأدوات وخيارات تحقيق الدخل والخوارزميات اللازمة للوصول إلى جمهورهم والتفاعل معه.
(3) المجتمع/الجمهور: فى اقتصاد المبدعين، يُشكل الجمهور أصحاب المصلحة الرئيسيين.. حيث يتم إنتاج المشاهدات والإعجابات والتعليقات والمشاركات من خلال استهلاكهم وتفاعلهم مع مواد المنتجين. بالإضافة إلى تقديم التعليقات وتعزيز التفاعل الاجتماعى حول أعمال المبدعين، يُعد الجمهور عنصرا أساسيا فى تحديد اتجاهات المحتوى.
(4) العلامات التجارية والمعلنون: للترويج لمنتجاتهم أو خدماتهم باستخدام حملات التسويق المؤثر، تتعاون العلامات التجارية والمعلنين مع الفنانين. فمن خلال هذه الشراكات، يتم الوصول إلى الجمهور المستهدف بطرق حقيقية ومميزة من خلال الاستفادة من قوة المبدعين وتأثيرهم. وهنا، تعد قدرة المنتجين على بناء علاقة شخصية مع جمهورهم، ميزة للعلامات التجارية.
(5) الوكالات وشركات الإدارة: تعمل هذه الجهات كوكلاء للمبدعين، حيث تتفاوض على العقود والتحالفات والتعاون. ومن أجل مساعدة المبدعين على تعظيم إمكاناتهم فى الربح والتعامل مع تعقيدات هذا المجال، تقدم هذه الجهات الدعم الاستراتيجى، والتفاوض على العقود، وإدارة العلامات التجارية، ودعم التطوير المهنى.
(6) أدوات وخدمات المبدعين: تدعم العديد من الأدوات والخدمات المبدعين فى إنشاء المحتوى وتوزيعه وتحقيق الدخل منه. ويشمل ذلك: معالجات الدفع، وخدمات التسويق، ومنصات التحليلات، وأنظمة إدارة المحتوى، وبرامج التحرير، ومواقع التمويل الجماعى. بمساعدة هذه الأدوات، يمكن لمنتجى المحتوى تحقيق دخل فعال من أعمالهم، وتبسيط سير عملهم، والتفاعل مع مشاهديهم.
(7) المستثمرون وأصحاب رءوس الأموال المغامرة: إدراكا منهم لإمكانات نمو اقتصاد المبدعين، يستثمر المستثمرون وأصحاب رءوس الأموال المغامرة فى المنصات والأدوات وفى المبدعين أنفسهم.
(8) الهيئات التنظيمية وصانعو السياسات: يدير هؤلاء الأفراد الجوانب القانونية والتنظيمية للاقتصاد الإبداعى، ويعالجون مسائل تشمل: حماية المستهلك، وانتهاك حقوق النشر، وخصوصية البيانات، والكشف عن التسويق المؤثر.
(9) مستهلكو المحتوى ومعجبوه: يروج مستهلكو المحتوى ومعجبوه بنشاط لمبدعى المحتوى من خلال استهلاك محتواهم، والتفاعل مع منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعى، وحضور الفعاليات الحية، وشراء المنتجات، والاشتراك فى عروض المحتوى المتميز. فى اقتصاد المبدعين، يكتسب هؤلاء المستهلكون أهمية كبيرة للحفاظ على مسيرة المبدعين المهنية، وتوليد الدخل، وتشجيع المشاركة المجتمعية.
(10) المؤسسات الأكاديمية والبحثية: يدرس الباحثون فى المؤسسات الأكاديمية، اقتصاد المبدعين من زوايا مختلفة، بما فى ذلك آثاره على الاقتصاد والمجتمع والثقافة والتكنولوجيا.

الضوابط القانونية:
بوجه عام، يُنظر إلى قانون الترفيه، وقانون الرياضة، وقانون الإعلام (الجديد / الرقمى)، كمساحات مستقلة فى المجال القانونى، والتى تقع عند تقاطع الملكية الفكرية، والأعمال التجارية، والعقود، والتنظيم، والتكنولوجيا، والخصوصية، وغيرها من المجالات القانونية الأخرى (مثل الضرائب والهجرة).
وبالمثل، يتناول قانون اقتصاد المبدعين جميع هذه المجالات، نظرا لأن التطورات التكنولوجية قد مكّنت أى شخص لديه جهاز متصل بالإنترنت من إنشاء محتوى ونشره، ليصبح فعليا بمثابة شركة إعلامية خاصة به. فبدءا من شبكات التواصل الاجتماعى (مثل فيسبوك، إنستجرام، واتساب)، وإكس (تويتر سابقا)، إلى منصات مشاركة الفيديو (التى تتضمن عناصر التفاعل الاجتماعي) مثل يوتيوب، وتويتش، وتيك توك.. يتمتع منشئو المحتوى بمجموعة من الخيارات للنشر الذاتى والتوزيع الرقمى لمحتواهم الإبداعى، مع بناء مجتمع من مستهلكى المحتوى ومعجبيه فى الوقت ذاته.