كتب: أشرف شهاب
فى قلب التحولات العاصفة التى يشهدها الاقتصاد العالمي، يطل مشهد متناقض يحمل فى طياته ملامح إعادة تشكيل النظام الدولى، الولايات المتحدة، صاحبة أكبر دين عام فى التاريخ، ما زالت تفرض هيمنتها المالية والتجارية بفضل قوة الدولار ونفوذها السياسى، لكنها تعتمد أكثر فأكثر على سياسات الانكفاء وبناء الجدران الجمركية لحماية أسواقها. فى المقابل، تتحرك الصين بخطى متسارعة لتوسيع حضورها الاقتصادى عبر الانفتاح، وبناء شراكات إقليمية ودولية، والاستثمار فى البنية التحتية والتكنولوجيا، لتقدم نفسها باعتبارها مركزا بديلا للنمو العالمى وقوة صاعدة ترسم ملامح العولمة الجديدة.
المعضلة الأمريكية تكمن فى أنها تمثل فى آن واحد أكبر قوة استهلاكية فى العالم وأكبر مدين فى التاريخ، فقد تجاوز إجمالى الدين العام الأمريكى 37 تريليون دولار وفقا لبيانات وزارة الخزانة 13 أغسطس الماضى، بينما تجاوز الدين الاستهلاكى للأفراد 17.5 تريليون دولار. هذه الأرقام تكشف عن اقتصاد يعتمد على الاستدانة المفرطة لتمويل استهلاكه، سواء على مستوى الحكومة أو الأفراد. ورغم أن هذه المعادلة تبدو غير قابلة للاستمرار فى أى دولة أخرى، فإن الولايات المتحدة تملك امتيازا فريدا يتمثل فى هيمنة الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية، ما يسمح لها بالاستدانة بلا حدود تقريبا، وبتحميل بقية العالم تكلفة هذا النموذج الاقتصادي.
لكن هذه الهيمنة المالية لم تخل من توظيف سياسى، فالولايات المتحدة استخدمت الدولار كسلاح جيوسياسي، إذ جمدت أصولا سيادية لخصومها من الدول، وفرضت عقوبات مالية تتجاوز حدودها الوطنية بفضل مكانة عملتها الدولية. هذا الاستخدام المفرط قوض الثقة تدريجيا فى النظام المالى الذى تقوده واشنطن، وفتح الباب أمام قوى صاعدة مثل مجموعة بريكس للدعوة إلى إنشاء آليات مالية بديلة تحد من الاعتماد على الدولار. وبذلك، لم يعد الخطر على الاقتصاد الأمريكى داخليا فحسب، بل من المحاولات المنظمة لإعادة تشكيل المشهد العالمى على أسس جديدة.
الاتجاه المعاكس
فى المقابل، تبدو الصين وكأنها تسير فى اتجاه معاكس تماما، فبدلا من بناء الجدران الجمركية، اتجهت بكين نحو الانفتاح، لا سيما أمام دول الجنوب العالمي. فمنذ ديسمبر 2024 ألغت الصين جميع الرسوم الجمركية على واردات الدول الأقل نموا، فى خطوة تعكس استراتيجية بعيدة المدى لربط اقتصادها بمحيطها العالمى عبر بوابة التجارة الحرة. هذا الانفتاح يعزز صورة الصين كقوة اقتصادية صاعدة لا تسعى فقط لتصدير منتجاتها، بل لتقديم نفسها كفرصة استثمارية واستهلاكية للدول الباحثة عن شريك تجارى يوازن نفوذ الولايات المتحدة.
وتسعى الصين اليوم لتكريس موقعها كمركز رئيسى للتجارة الآسيوية، معتمدة على مبادرة «الحزام والطريق»، التى تمول مشروعات بنية تحتية فى نحو 150 دولة. وبذلك لا تقتصر استراتيجيتها على فتح الأسواق، بل تمتد إلى بناء شبكات طرق وموانئ وخطوط سكك حديدية تعيد رسم خريطة التدفقات التجارية العالمية. وقد انعكس هذا التوجه على حجم صادراتها، إذ بلغ فائضها التجارى مع العالم ما يقارب تريليون دولار، فيما بلغت حصتها من الصادرات العالمية عام 2023 نحو 14 %، مقارنة بـ 8.5 % فقط للولايات المتحدة، ما يعكس تحول موازين القوة الاقتصادية نحو الشرق.
هيمنة صينية
فى قلب هذا الصعود تكمن قدرة الصين على التحكم فى سلاسل الإمداد العالمية للعديد من الصناعات الحيوية، من المعادن النادرة والبطاريات إلى الشرائح الإلكترونية. وقد أسهمت بنيتها التحتية عالية الكفاءة فى جعلها مسئولة عن 35 % من الإنتاج الصناعى العالمى اليوم، مع توقعات بارتفاع هذه النسبة إلى 45 % بحلول 2030. هذا التوسع لم يكن محض صدفة، بل نتيجة تخطيط طويل الأمد يزاوج بين الاستثمار فى البنية التحتية وتعزيز بيئة تنافسية تحتضن الابتكار، وهو ما تجلى مؤخرا فى صعود شركات ناشئة مثل “ديب سيك” فى مجال الذكاء الاصطناعي، التى قلبت موازين هذه الصناعة، وأكدت أن الصين لم تعد مجرد مصنع للعالم بل أيضا مختبر لتقنياته المستقبلية.
ورغم علامات التباطؤ الاقتصادى التى تشهدها الصين، فإن اقتصادها حقق نموا يناهز 5 % فى 2024، فى وقت يكافح فيه الاقتصاد الأمريكى لتفادى الانكماش وسط تضخم الديون. وما يعزز قوة الصين الصاعدة أنها تقدم سنويا نحو 65 % من خريجى مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات على مستوى العالم، مما يمنحها قاعدة بشرية ضخمة قادرة على قيادة التحول نحو اقتصاد عالى التقنية، يجمع بين وفرة العمالة الماهرة والقدرة على استيعاب أحدث الصناعات.
جدران جمركية
على الجانب الآخر، تعود إدارة دونالد ترامب إلى سياسة الرسوم الجمركية باعتبارها الأداة الرئيسية لاستعادة ما تصفه بـ «الهيمنة الصناعية الأمريكية». وهذه السياسات تكشف واقعيا عن مأزق هيكلى أعمق يتمثل فى فقدان القدرة التنافسية أمام الصين، وهو ما يجعل الرسوم الجمركية أشبه بمحاولة لتجميد الواقع أكثر من كونها استراتيجية مستدامة للنمو.
اللافت أن ترامب لا يكتفى باستخدام الرسوم الجمركية كأداة اقتصادية، بل يوظفها أيضا كورقة ضغط سياسية، حتى لو كان ذلك على حساب تفاقم التوترات التجارية والمالية عالميا. لكن هذه الاستراتيجية تبدو قصيرة الأجل، فكلما بالغت الولايات المتحدة فى استخدام الدولار كسلاح سياسي، زاد الحافز لدى الاقتصادات الصاعدة، خاصة دول «بريكس» لتطوير بدائل مالية تقلل من الاعتماد على النظام المالى الأمريكى. كما أن غياب التخطيط الاستراتيجى الفعال يضعف قدرتها على إعادة بناء قاعدة صناعية تنافسية، مما يفاقم من هشاشة الاقتصاد الأمريكى الذى يعتمد بشكل مفرط على أدوات مالية قصيرة الأمد، مثل تراكم الديون وضخ السيولة، بدلا من الاستثمار فى الابتكار والبنية التحتية.
قواعد اللعبة
ومن اللافت أن كلا من الولايات المتحدة والصين تدركان أن معركة النفوذ الاقتصادى لا تقتصر على المؤشرات المالية أو أرقام الناتج المحلى الإجمالي، بل تشمل القدرة على صياغة القواعد والمعايير التى تحكم الاقتصاد العالمي. واشنطن تستخدم نظامها المالى كسلاح للضغط على الدول المنافسة، بينما تعمل بكين على تعزيز مكانة عملتها الوطنية «اليوان» فى التجارة الدولية والتمويل، مدعومة بإنشاء مؤسسات بديلة مثل البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية. هذا التنافس على صياغة «قواعد اللعبة» الاقتصادية يمثل جوهر الصراع بين القوتين، ويحدد ملامح النظام العالمى القادم.
ومع ذلك، يبقى ميزان القوة مائلا لصالح الولايات المتحدة فى المدى القريب، بفضل تفوقها العسكرى وشبكة تحالفاتها العالمية، إضافة إلى تفرد الدولار كعملة تسوية رئيسية فى الأسواق المالية الدولية. لكن هذه الأفضلية ليست أبدية، فالتنامى المتسارع للقدرات الصينية فى مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية والتمويل الدولى يشير إلى أن بكين باتت تضع الأسس العملية لنظام عالمى أكثر توازنا، أو حتى متعدد الأقطاب. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: واشنطن تستند إلى إرث الماضى للحفاظ على هيمنتها، فيما ترسم الصين ملامح المستقبل عبر استراتيجيات الانفتاح والإنتاج والتكامل الاقتصادي.
مفترق طرق
العالم يقف اليوم أمام مفترق اقتصادى حاسم: الولايات المتحدة، صاحبة أكبر دين عام فى التاريخ الحديث، تواصل فرض إرادتها عبر قوة الدولار ونفوذها السياسى والعسكري، فيما تبنى الصين نفوذها المتصاعد على قاعدة الإنتاج والانفتاح وتعزيز التجارة مع دول الجنوب العالمي. إنها ليست منافسة تقليدية بقدر ما هى صراع بين نموذجين متناقضين. المؤشرات الراهنة توحى بانتقال تدريجى نحو نظام تجارى عالمى متعدد الأقطاب، تتراجع فيه الهيمنة الأمريكية المطلقة ويصعد فيه الدور الصينى كقوة لا يمكن تجاوزها، بينما تجد دول الجنوب العالمى نفسها أمام فرصة لإعادة التموضع عبر تنويع شراكاتها والانفتاح على الصين كمصدر للتمويل والتكنولوجيا والبنية التحتية.
غير أن هذا المسار لا يخلو من التحديات، إذ تواجه الدول النامية معضلة موازنة علاقاتها بين القوتين العظميين. فمن جهة، تظل الولايات المتحدة ضامنا رئيسيا للأمن فى العديد من المناطق، وتملك نفوذا سياسيا وعسكريا يصعب تجاوزه. ومن جهة أخرى، تمثل الصين شريكا اقتصاديا لا غنى عنه، يوفر احتياجات هذه الدول من البنية التحتية والتكنولوجيا والتمويل. هذا التوازن الدقيق بين الأمن والسيادة الاقتصادية قد يشكل محددا رئيسيا لشكل النظام العالمى فى العقود المقبلة.