رئيس مجلس الإدارة
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير
إيمان عراقي

اتصالات

شبكات المحمول.. من أبراج تلتهم الكهرباء إلى مختبر عالمى للطاقة النظيفة

19-10-2025 | 12:54

أشرف‭ ‬شهاب

ارتبطت‭ ‬الصورة‭ ‬الذهنية‭ ‬لصناعة‭ ‬الاتصالات‭ ‬تقليديا‭ ‬بصورة‭ ‬الأبراج‭ ‬الشاهقة‭ ‬التى‭ ‬تستهلك‭ ‬كميات‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬الكهرباء‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الساعة،‭ ‬ومولدات‭ ‬الديزل‭ ‬التى‭ ‬تعمل‭ ‬عند‭ ‬انقطاع‭ ‬الطاقة‭ ‬الكهربائية‭. ‬ووفقا‭ ‬لتقرير‭ ‬الرابطة‭ ‬العالمية‭ ‬لمشغلى‭ ‬شبكات‭ ‬الاتصالات‭  ‬GSMA‭ ‬الصادر‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭:  ‬GSMA Mobile Net Zero 2025،‭ ‬

فإن‭ ‬شبكات‭ ‬الاتصالات‭ ‬تستهلك‭ ‬نحو‭ ‬290‭  ‬تيراواط‭/‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الكهرباء‭ ‬سنويا،‭ ‬أى‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬1‭ % ‬من‭ ‬الاستهلاك‭ ‬العالمى‭ ‬للطاقة‭. ‬هذا‭ ‬الحجم‭ ‬الهائل‭ ‬جعل‭ ‬القطاع‭ ‬يقع‭ ‬لعقود‭ ‬طويلة‭ ‬تحت‭ ‬تصنيف‭ ‬كبار‭ ‬المستهلكين‭ ‬للطاقة‭ ‬فى‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الرقمي‭.‬

 

لكن‭ ‬المفارقة‭ ‬أن‭ ‬القطاع‭ ‬نفسه‭ ‬بات‭ ‬يحقق‭ ‬نجاحات‭ ‬ملحوظة‭ ‬فى‭ ‬خفض‭ ‬انبعاثاته‭ ‬الكربونية‭. ‬فبحسب‭ ‬بيانات‭ ‬نشرها‭ ‬موقع‭ ‬TechRadar،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬حركة‭ ‬البيانات‭ ‬عبر‭ ‬الشبكات‭ ‬تضاعفت‭ ‬أربع‭ ‬مرات‭ ‬بين‭ ‬عامى‭ ‬2019‭ ‬و‭ ‬2023،‭ ‬فإن‭ ‬الانبعاثات‭ ‬التشغيلية‭ ‬للشبكات‭ ‬انخفضت‭ ‬بنسبة‭ ‬8‭ % ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬نفسها،‭ ‬وهو‭ ‬إنجاز‭ ‬يعكس‭ ‬التقدم‭ ‬فى‭ ‬كفاءة‭ ‬الشبكات‭ ‬والتحول‭ ‬نحو‭ ‬الطاقة‭ ‬المتجددة‭.‬

اليوم،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الطاقة‭ ‬مجرد‭ ‬بند‭ ‬فى‭ ‬قائمة‭ ‬التكاليف،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬ميدانا‭ ‬للتنافس‭ ‬الاستراتيجي‭. ‬ويشير‭ ‬تقرير‭ ‬The Mobile Economy 2025‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الطاقة‭ ‬تمثل‭ ‬نحو‭ ‬20‭ % ‬من‭ ‬النفقات‭ ‬التشغيلية‭ ‬لشبكات‭ ‬المحمول،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬إدارتها‭ ‬بكفاءة‭ ‬ضرورة‭ ‬اقتصادية‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬بيئية‭. ‬ومن‭ ‬استخدام‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعى‭ ‬لتخطيط‭ ‬الشبكات،‭ ‬إلى‭ ‬الاستثمار‭ ‬فى‭ ‬مصادر‭ ‬الطاقة‭ ‬النظيفة،‭ ‬يتحول‭ ‬قطاع‭ ‬الاتصالات‭ ‬إلى‭ ‬مختبر‭ ‬عالمى‭ ‬لحلول‭ ‬مستقبلية‭ ‬لمشكلات‭ ‬الطاقة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التحول‭ ‬التدريجى‭ ‬من‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬المصادر‭ ‬التقليدية‭ ‬عالية‭ ‬الكربون‭ ‬إلى‭ ‬المصادر‭ ‬النظيفة‭ ‬المنخفضة‭ ‬الكربون،‭ ‬مثل‭ ‬الطاقة‭ ‬الشمسية،‭ ‬طاقة‭ ‬الرياح،‭ ‬الهيدروجين‭ ‬الأخضر،‭ ‬والنووي،‭ ‬مع‭ ‬تحسين‭ ‬كفاءة‭ ‬الاستخدام‭ ‬وتقليل‭ ‬الهدر‭.‬

حجم‭ ‬المشكلة

إذا‭ ‬كانت‭ ‬الاتصالات‭ ‬قد‭ ‬أثبتت‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬خفض‭ ‬الانبعاثات‭ ‬فى‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬فإن‭ ‬التحدى‭ ‬الأكبر‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬قائما،‭ ‬فاستهلاك‭ ‬الطاقة‭ ‬طبقا‭ ‬لتقريرThe Mobile Economy 2025‭ ‬يجعلها‭ ‬ثانى‭ ‬أكبر‭ ‬بند‭ ‬تكلفة‭ ‬بعد‭ ‬الإنفاق‭ ‬الرأسمالى‭ ‬على‭ ‬البنية‭ ‬التحتية،‭ ‬وهذا‭ ‬الرقم‭ ‬يفسر‭ ‬لماذا‭ ‬تتعامل‭ ‬الشركات‭ ‬مع‭ ‬إدارة‭ ‬الطاقة‭ ‬باعتبارها‭ ‬قضية‭ ‬مالية‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬بيئية‭.‬

على‭ ‬المستوى‭ ‬الكلي،‭ ‬تشير‭ ‬البيانات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬استهلاك‭ ‬مشغلى‭ ‬شبكات‭ ‬المحمول‭ ‬عام‭ ‬2023‭ ‬الذى‭ ‬قارب290‭ ‬تيراواط‭/‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الكهرباء،‭ ‬يعادل‭ ‬استهلاك‭ ‬دول‭ ‬متوسطة‭ ‬الحجم‭ ‬مثل‭ ‬إسبانيا‭ ‬أو‭ ‬مصر‭ ‬مجتمعة،‭ ‬وهذه‭ ‬الكمية‭ ‬تشكل‭ ‬نحو‭ ‬1‭ % ‬من‭ ‬إجمالى‭ ‬الاستهلاك‭ ‬العالمى‭ ‬للكهرباء،‭ ‬وهو‭ ‬رقم‭ ‬يبدو‭ ‬صغيرا‭ ‬نسبيا‭ ‬لكنه‭ ‬ضخم‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قطاعًا‭ ‬واحدًا‭ ‬فقط‭ ‬يستحوذ‭ ‬عليه‭.‬

وتزداد‭ ‬المشكلة‭ ‬تعقيدا‭ ‬مع‭ ‬نمو‭ ‬حركة‭ ‬البيانات‭. ‬فوفقا‭ ‬لتقرير‭ ‬TechRadar،‭ ‬ارتفع‭ ‬حجم‭ ‬البيانات‭ ‬المنقولة‭ ‬عبر‭ ‬شبكات‭ ‬المحمول‭ ‬أربع‭ ‬مرات‭ ‬بين‭ ‬عامى‭ ‬2019‭ ‬و2023،‭ ‬ومن‭ ‬المتوقع‭ ‬أن‭ ‬يستمر‭ ‬النمو‭ ‬بالوتيرة‭ ‬نفسها‭ ‬مع‭ ‬انتشار‭ ‬الجيل‭ ‬الخامس،‭ ‬وبدء‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الجيل‭ ‬السادس‭. ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬تواكب‭ ‬كفاءة‭ ‬الطاقة‭ ‬هذا‭ ‬النمو،‭ ‬فإن‭ ‬استهلاك‭ ‬الكهرباء‭ ‬والانبعاثات‭ ‬الكربونية‭ ‬سيتضاعفان‭ ‬بوتيرة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬خيار‭ ‬استراتيجي،‭ ‬بل‭ ‬مسألة‭ ‬بقاء‭ ‬اقتصادى‭ ‬وبيئى‭ ‬فى‭ ‬آن‭ ‬واحد‭: ‬إما‭ ‬أن‭ ‬ينجح‭ ‬المشغلون‭ ‬فى‭ ‬كبح‭ ‬استهلاك‭ ‬الطاقة،‭ ‬أو‭ ‬يواجهوا‭ ‬ضغوطا‭ ‬مالية‭ ‬وتنظيمية‭ ‬قد‭ ‬تعرقل‭ ‬توسعهم‭ ‬فى‭ ‬المستقبل‭.‬

السياق‭ ‬العالمى‭ ‬للطاقة

لا‭ ‬يمكن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬استهلاك‭ ‬الطاقة‭ ‬فى‭ ‬قطاع‭ ‬الاتصالات‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬المشهد‭ ‬العالمى‭ ‬الأشمل‭. ‬فوفقا‭ ‬لتقارير‭ ‬الوكالة‭ ‬الدولية‭ ‬للطاقة‭ (‬IEA‭)‬،‭ ‬تعتبر‭ ‬كفاءة‭ ‬الطاقة‭ ‬“الوقود‭ ‬الأول”‭ ‬للتحول‭ ‬نحو‭ ‬مصادر‭ ‬أنظف‭ (‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬وحدة‭ ‬طاقة‭ ‬يتم‭ ‬توفيرها‭ ‬عبر‭ ‬الكفاءة‭ ‬تساوى‭ ‬وحدة‭ ‬طاقة‭ ‬جديدة‭ ‬يمكن‭ ‬استخدامها‭)‬،‭ ‬لأنها‭ ‬الوسيلة‭ ‬الأسرع‭ ‬والأكثر‭ ‬فعالية‭ ‬لخفض‭ ‬انبعاثات‭ ‬ثانى‭ ‬أكسيد‭ ‬الكربون،‭ ‬وتقليل‭ ‬فواتير‭ ‬الكهرباء،‭ ‬وتعزيز‭ ‬أمن‭ ‬الطاقة‭ ‬فى‭ ‬وقت‭ ‬تتزايد‭ ‬فيه‭ ‬الأزمات‭ ‬الجيوسياسية‭. ‬وتضيف‭ ‬الوكالة‭ ‬أن‭ ‬تحسين‭ ‬الكفاءة‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬بناء‭ ‬محطات‭ ‬شمسية‭ ‬أو‭ ‬مزارع‭ ‬رياح‭ ‬جديدة،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬الطاقة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬نحتاج‭ ‬لاستهلاكها‭ ‬أصلا‭.‬

خلال‭ ‬قمة‭ ‬المناخ‭ ‬COP28،‭ ‬التزمت‭ ‬الدول‭ ‬المشاركة‭ ‬بمضاعفة‭ ‬معدل‭ ‬التقدم‭ ‬فى‭ ‬كفاءة‭ ‬الطاقة‭ ‬عالميا‭ ‬بحلول‭ ‬عام‭ ‬2030‭. ‬لكن‭ ‬الواقع‭ ‬الفعلى‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الهدف؛‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬معدل‭ ‬التحسن‭ ‬السنوى‭ ‬حاليا‭ ‬1‭ %‬،‭ ‬بينما‭ ‬المطلوب‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬4‭ % ‬إلى‭ ‬5‭ % ‬سنويا‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬العقد‭ ‬الحالى‭. ‬هذا‭ ‬التباطؤ‭ ‬يضع‭ ‬عبئا‭ ‬إضافيا‭ ‬على‭ ‬القطاعات‭ ‬الأكثر‭ ‬استهلاكا‭ ‬للطاقة،‭ ‬ومنها‭ ‬الاتصالات،‭ ‬التى‭ ‬ينتظر‭ ‬منها‭ ‬لعب‭ ‬دور‭ ‬نموذجى‭ ‬فى‭ ‬تقليص‭ ‬الانبعاثات‭.‬

ما‭ ‬يميز‭ ‬الاتصالات‭ ‬مقارنة‭ ‬بقطاعات‭ ‬أخرى‭ ‬كالنقل‭ ‬أو‭ ‬الصناعة‭ ‬الثقيلة،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬تأثير‭ ‬كفاءة‭ ‬الطاقة‭ ‬فيها‭ ‬يظهر‭ ‬سريعا‭ ‬نسبيا‭. ‬فكل‭ ‬تحسين‭ ‬فى‭ ‬استهلاك‭ ‬الكهرباء‭ ‬لكل‭ ‬جيجابايت‭ ‬من‭ ‬البيانات‭ ‬المنقولة‭ ‬تتم‭ ‬ترجمته‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬ملايين‭ ‬الأطنان‭ ‬من‭ ‬الانبعاثات‭ ‬التى‭ ‬تم‭ ‬تجنبها‭. ‬ولذلك‭ ‬ترى‭ ‬تقارير‭ ‬مثل‭ ‬GSMA Mobile Net Zero 2025‭ ‬أن‭ ‬النجاح‭ ‬الذى‭ ‬حققته‭ ‬الشركات‭ ‬المشغلة‭ ‬لشبكات‭ ‬المحمول‭ ‬فى‭ ‬تحسين‭ ‬الكفاءة‭ ‬بين‭ ‬10‭ % ‬و‭ ‬30‭ % ‬سنويا‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬بين‭ ‬2019‭ ‬و‭ ‬2023،‭ ‬يعد‭ ‬نموذجا‭ ‬عمليا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬الاقتداء‭ ‬به‭ ‬فى‭ ‬قطاعات‭ ‬أخرى‭.‬

بعبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬السياق‭ ‬العالمى‭ ‬يضع‭ ‬كفاءة‭ ‬الطاقة‭ ‬فى‭ ‬قلب‭ ‬استراتيجيات‭ ‬المناخ،‭ ‬لكن‭ ‬قطاع‭ ‬الاتصالات‭ ‬يبرهن‭ ‬أنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬هذه‭ ‬الأجندة‭ ‬من‭ ‬أهداف‭ ‬سياسية‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬ملموسة‭.‬

إنجازات‭ ‬الاتصالات

هذا‭ ‬النجاح‭ ‬الذى‭ ‬حققه‭ ‬قطاع‭ ‬الاتصالات‭ ‬كان‭ ‬ملفتا‭ ‬لأن‭ ‬وراءه‭ ‬حقيقة‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬حركة‭ ‬البيانات‭ ‬عبر‭ ‬الشبكات‭ ‬تضاعفت‭ ‬4‭ ‬مرات‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬السنوات،‭ ‬مما‭ ‬يضعنا‭ ‬أمام‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬الانبعاثات‭ ‬التشغيلية‭ ‬للمشغلين‭ ‬سجلت‭ ‬انخفاضا‭ ‬قدره‭ ‬8‭ % ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬نفسها‭. ‬وهذه‭ ‬المفارقة‭ ‬توضح‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للتطور‭ ‬التكنولوجى‭ ‬أن‭ ‬يعوض‭ ‬النمو‭ ‬المتسارع‭ ‬فى‭ ‬الطلب‭ ‬على‭ ‬البيانات‭. ‬وهذا‭ ‬التطور‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬من‭ ‬فراغ،‭ ‬بل‭ ‬نتيجة‭ ‬تحديث‭ ‬المعدات،‭ ‬إدخال‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعى‭ ‬فى‭ ‬إدارة‭ ‬الشبكات،‭ ‬واعتماد‭ ‬بنى‭ ‬تحتية‭ ‬أكثر‭ ‬مرونة‭ ‬وكفاءة‭.‬

وإلى‭ ‬جانب‭ ‬كفاءة‭ ‬استهلاك‭ ‬الطاقة،‭ ‬لعبت‭ ‬الطاقة‭ ‬المتجددة‭ ‬دورا‭ ‬محوريا‭. ‬فحصة‭ ‬الكهرباء‭ ‬النظيفة‭ ‬فى‭ ‬إجمالى‭ ‬استهلاك‭ ‬المشغلين‭ ‬ارتفعت‭ ‬من‭ ‬14‭ ‬‭% ‬عام‭ ‬2019‭ ‬إلى‭ ‬37‭ % ‬فى‭ ‬2023،‭ ‬ما‭ ‬ساعد‭ ‬على‭ ‬خفض‭ ‬الانبعاثات‭ ‬بنسبة‭ ‬32‭ % ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬نفسها‭. ‬وتفاوتت‭ ‬طرق‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬النتيجة‭ ‬بين‭ ‬شركات‭ ‬أبرمت‭ ‬عقود‭ ‬شراء‭ ‬طويلة‭ ‬الأجل‭ ‬مع‭ ‬مزودى‭ ‬الكهرباء‭ ‬الخضراء،‭ ‬وأخرى‭ ‬استثمرت‭ ‬فى‭ ‬محطات‭ ‬شمسية‭ ‬أو‭ ‬مزارع‭ ‬رياح‭ ‬خاصة‭ ‬بها‭.‬

وتكشف‭ ‬هذه‭ ‬المؤشرات‭ ‬أن‭ ‬القطاع‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬تقدم‭ ‬ملموس‭ ‬عندما‭ ‬تتوفر‭ ‬الإرادة‭ ‬والاستثمار‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬التحدى‭ ‬مازال‭ ‬قائما،‭ ‬إذ‭ ‬يحذر‭ ‬خبراء‭ ‬الطاقة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬بلوغ‭ ‬مسار‭ ‬صافى‭ ‬الصفر‭ ‬انبعاثات‭ ‬كربونية‭ ‬بحلول‭ ‬2050‭ ‬يتطلب‭ ‬خفضا‭ ‬سنويا‭ ‬للانبعاثات‭ ‬بنسبة‭ ‬7‭.‬5‭ % ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬حتى‭ ‬2030‭. ‬بعبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬الإنجازات‭ ‬الحالية‭ ‬تبعث‭ ‬على‭ ‬التفاؤل،‭ ‬لكنها‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬خطوة‭ ‬أولى‭ ‬فى‭ ‬مسيرة‭ ‬طويلة‭ ‬تتطلب‭ ‬تسارعا‭ ‬أكبر‭ ‬فى‭ ‬السنوات‭ ‬القادمة‭.‬

شركات‭ ‬تقود‭ ‬التغيير

رغم‭ ‬أن‭ ‬التوجه‭ ‬نحو‭ ‬كفاءة‭ ‬الطاقة‭ ‬فى‭ ‬قطاع‭ ‬الاتصالات‭ ‬أصبح‭ ‬مسارا‭ ‬عاما،‭ ‬فإن‭ ‬بعض‭ ‬الشركات‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬رواد‭ ‬عالميين‭ ‬يقدمون‭ ‬نماذج‭ ‬ملموسة‭ ‬لكيفية‭ ‬تحويل‭ ‬الطموحات‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭. ‬يبرز‭ ‬تقريرThe Mobile Economy 2025‭ ‬عدة‭ ‬تجارب‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعد‭ ‬بمثابة‭ ‬مختبرات‭ ‬للانتقال‭ ‬الطاقة،‭ ‬تختلف‭ ‬فى‭ ‬السياق‭ ‬الجغرافى‭ ‬لكنها‭ ‬تشترك‭ ‬فى‭ ‬الهدف‭: ‬تقليل‭ ‬الانبعاثات‭ ‬وخفض‭ ‬التكاليف‭ ‬التشغيلية‭ ‬عبر‭ ‬الابتكار‭.‬

تعتبر‭ ‬شركة‭ ‬China Mobile،‭ ‬أكبر‭ ‬مشغل‭ ‬فى‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬عدد‭ ‬المشتركين،‭ ‬وقد‭ ‬تبنت‭ ‬مقاربة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬دمج‭ ‬الجيل‭ ‬الخامس‭ ‬المتقدم‭ ‬مع‭ ‬تقنيات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعى‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بناء‭ ‬ما‭ ‬تسميه‭ ‬‮«‬مجتمع‭ ‬طاقة‭ ‬نظيفة‮»‬‭. ‬وتعتمد‭ ‬الفكرة‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬البيانات‭ ‬الضخمة‭ ‬والتحليلات‭ ‬التنبؤية‭ ‬لإدارة‭ ‬استهلاك‭ ‬الطاقة‭ ‬فى‭ ‬آلاف‭ ‬المحطات‭ ‬عبر‭ ‬الصين‭. ‬والنتيجة‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬زيادة‭ ‬فى‭ ‬حركة‭ ‬البيانات‭ ‬لا‭ ‬تعنى‭ ‬بالضرورة‭ ‬زيادة‭ ‬موازية‭ ‬فى‭ ‬استهلاك‭ ‬الكهرباء،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمنح‭ ‬الشركة‭ ‬ميزة‭ ‬تنافسية‭ ‬فى‭ ‬سوق‭ ‬شديد‭ ‬الكثافة‭.‬

أما‭ ‬فى‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬فقد‭ ‬اتخذت‭ ‬شركة‭ ‬الاتصالات‭ ‬السعودية‭ (‬STC‭) ‬خطوات‭ ‬لافتة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬توظيف‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعى‭ ‬فى‭ ‬تخطيط‭ ‬الشبكات‭ ‬وتوسعتها‭. ‬وتصف‭ ‬الشركة‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬بأنه‭ ‬أكبر‭ ‬توسع‭ ‬شبكى‭ ‬فى‭ ‬تاريخها،‭ ‬لكنه‭ ‬يجرى‭ ‬ضمن‭ ‬استراتيجية‭ ‬تضمن‭ ‬التوافق‭ ‬مع‭ ‬هدف‭ ‬المملكة‭ ‬المعلن‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬صافى‭ ‬صفر‭ ‬انبعاثات‭ ‬بحلول‭ ‬عام‭ ‬2060‭. ‬هذا‭ ‬المثال‭ ‬يعكس‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬ربط‭ ‬أهداف‭ ‬الشركات‭ ‬التشغيلية‭ ‬باستراتيجيات‭ ‬وطنية‭ ‬أوسع،‭ ‬مثل‭ ‬رؤية‭ ‬السعودية‭ ‬2030‭ ‬التى‭ ‬تضع‭ ‬الاستدامة‭ ‬كأحد‭ ‬محاورها‭ ‬الرئيسية‭.‬

فى‭ ‬الجنوب‭ ‬الإفريقي،‭ ‬تواجه‭ ‬Openserve،‭ ‬المتخصصة‭ ‬فى‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬للاتصالات‭ ‬ضمن‭ ‬مجموعة‭ ‬Telkom South Africa،‭ ‬تحديات‭ ‬مختلفة‭ ‬تماما‭. ‬فعدم‭ ‬استقرار‭ ‬شبكة‭ ‬الكهرباء‭ ‬الوطنية‭ ‬يفرض‭ ‬واقعا‭ ‬معقدا‭ ‬يتطلب‭ ‬حلولا‭ ‬هجينة‭. ‬طورت‭ ‬الشركة‭ ‬نظاما‭ ‬لإدارة‭ ‬الطاقة‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬دمج‭ ‬بيانات‭ ‬الطقس‭ ‬وانقطاعات‭ ‬الكهرباء‭ ‬مع‭ ‬بيانات‭ ‬تشغيل‭ ‬الشبكة،‭ ‬لتحديد‭ ‬المزج‭ ‬الأمثل‭ ‬بين‭ ‬مولدات‭ ‬الديزل،‭ ‬البطاريات،‭ ‬وشبكة‭ ‬الكهرباء‭ ‬العامة‭. ‬هذا‭ ‬الابتكار‭ ‬لا‭ ‬يحل‭ ‬فقط‭ ‬مشكلة‭ ‬بيئية،‭ ‬بل‭ ‬يعزز‭ ‬أيضا‭ ‬موثوقية‭ ‬الخدمة‭ ‬فى‭ ‬سوق‭ ‬يشهد‭ ‬انقطاعات‭ ‬يومية‭.‬

تجربة‭ ‬أخرى‭ ‬مهمة‭ ‬قامت‭ ‬بها‭ ‬شركة‭ ‬Hong Kong Telecom،‭ ‬التى‭ ‬استثمرت‭ ‬فى‭ ‬منصة‭ ‬تشغيلية‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬البيانات‭ ‬والنماذج‭ ‬المفتوحة‭ ‬لإعادة‭ ‬هيكلة‭ ‬المواقع‭ ‬الشبكية‭. ‬تستخدم‭ ‬تستخدم‭ ‬الطائرات‭ ‬بدون‭ ‬طيار‭ ‬لفحص‭ ‬الأبراج‭ ‬وإجراء‭ ‬صيانة‭ ‬استباقية،‭ ‬وتستكشف‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تطبيقات‭ ‬طبية‭ ‬طارئة‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الشبكات‭ ‬الخضراء‭ ‬عالية‭ ‬الكفاءة‭. ‬هذا‭ ‬الدمج‭ ‬بين‭ ‬الكفاءة‭ ‬الطاقة‭ ‬والخدمات‭ ‬المجتمعية‭ ‬يوضح‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للاتصالات‭ ‬أن‭ ‬تلعب‭ ‬دورا‭ ‬يتجاوز‭ ‬الاقتصاد‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬التنمية‭ ‬الاجتماعية‭.‬

هذه‭ ‬النماذج‭ ‬المختلفة،‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬السعودية‭ ‬وجنوب‭ ‬إفريقيا‭ ‬وهونج‭ ‬كونج،‭ ‬تكشف‭ ‬أن‭ ‬مسألة‭ ‬الطاقة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬بندا‭ ‬محاسبيا‭ ‬داخليا،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬مجالا‭ ‬للإبداع‭ ‬والتنافسية‭. ‬وكل‭ ‬شركة‭ ‬تجد‭ ‬طريقها‭ ‬الخاص‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬مواردها‭ ‬وظروفها،‭ ‬لكنها‭ ‬جميعا‭ ‬تسهم‭ ‬فى‭ ‬إعادة‭ ‬تعريف‭ ‬دور‭ ‬الاتصالات‭: ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬‮«‬مستهلك‭ ‬طاقة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬مختبر‭ ‬عالمى‭ ‬للابتكار‭ ‬فى‭ ‬الطاقة‮»‬‭.‬

الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬وأمن‭ ‬الطاقة

يكتسب‭ ‬ملف‭ ‬الطاقة‭ ‬فى‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬خصوصية‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬العالم‭. ‬فالمنطقة،‭ ‬التى‭ ‬تعد‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬منتجى‭ ‬النفط‭ ‬والغاز‭ ‬عالميا،‭ ‬تواجه‭ ‬مفارقة‭ ‬واضحة‭: ‬من‭ ‬جهة‭ ‬لديها‭ ‬وفرة‭ ‬من‭ ‬الموارد‭ ‬التقليدية‭ ‬تجعل‭ ‬الكهرباء‭ ‬متاحة‭ ‬بكلفة‭ ‬أقل‭ ‬نسبيا،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬تتبنى‭ ‬حكوماتها‭ ‬استراتيجيات‭ ‬طموحة‭ ‬للتحول‭ ‬نحو‭ ‬الطاقة‭ ‬المتجددة‭ ‬والتزامات‭ ‬دولية‭ ‬بالوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحياد‭ ‬الكربوني‭. ‬هذه‭ ‬المفارقة‭ ‬تنعكس‭ ‬بوضوح‭ ‬على‭ ‬قطاع‭ ‬الاتصالات،‭ ‬الذى‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬فى‭ ‬موقع‭ ‬مثالى‭ ‬ليكون‭ ‬جسرا‭ ‬بين‭ ‬‮«‬اقتصاد‭ ‬الهيدروكربون‮»‬‭ ‬و»اقتصاد‭ ‬الطاقة‭ ‬النظيفة‮»‬‭.‬

وتزداد‭ ‬أهمية‭ ‬هذه‭ ‬المفارقة‭ ‬فى‭ ‬ضوء‭ ‬أن‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬لا‭ ‬يعتبر‭ ‬مجرد‭ ‬منتج‭ ‬رئيسى‭ ‬للطاقة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أيضا‭ ‬مركز‭ ‬حيوى‭ ‬لأمن‭ ‬الطاقة‭ ‬العالمي،‭ ‬حيث‭ ‬تمر‭ ‬عبره‭ ‬أهم‭ ‬ممرات‭ ‬الشحن‭ ‬البحرى‭ ‬مثل‭ ‬مضيق‭ ‬هرمز‭ ‬وباب‭ ‬المندب‭ ‬وقناة‭ ‬السويس،‭ ‬التى‭ ‬يعتمد‭ ‬عليها‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬تجارة‭ ‬النفط‭ ‬والغاز‭ ‬المسال‭. ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬الاستراتيجى‭ ‬يجعل‭ ‬أى‭ ‬توترات‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬نزاعات‭ ‬إقليمية‭ ‬ذات‭ ‬تأثير‭ ‬فورى‭ ‬على‭ ‬استقرار‭ ‬الأسواق‭ ‬وأسعار‭ ‬الطاقة‭ ‬عالميا‭.‬

من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬تتسابق‭ ‬دول‭ ‬المنطقة،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬مصر‭ ‬والسعودية‭ ‬والإمارات‭ ‬وقطر،‭ ‬للاستثمار‭ ‬فى‭ ‬مشاريع‭ ‬الطاقة‭ ‬المتجددة‭ ‬مثل‭ ‬الطاقة‭ ‬الشمسية‭ ‬والرياح‭ ‬والهيدروجين‭ ‬الأخضر‭. ‬هذه‭ ‬الاستثمارات‭ ‬لا‭ ‬ترتبط‭ ‬فقط‭ ‬بالتحول‭ ‬البيئي،‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬بالرغبة‭ ‬فى‭ ‬تنويع‭ ‬الاقتصادات‭ ‬الوطنية‭ ‬وتقليل‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬النفط‭ ‬كمصدر‭ ‬رئيسى‭ ‬للإيرادات‭. ‬وفى‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يظهر‭ ‬قطاع‭ ‬الاتصالات‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬باعتباره‭ ‬أداة‭ ‬أساسية‭ ‬لتمكين‭ ‬هذا‭ ‬التحول،‭ ‬عبر‭ ‬إدارة‭ ‬الشبكات‭ ‬الذكية‭ ‬للطاقة،‭ ‬وإنشاء‭ ‬منصات‭ ‬رقمية‭ ‬لمراقبة‭ ‬الاستهلاك‭ ‬والإنتاج،‭ ‬وتوظيف‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعى‭ ‬فى‭ ‬رفع‭ ‬الكفاءة‭.‬

كذلك،‭ ‬فإن‭ ‬الطابع‭ ‬الديمغرافى‭ ‬للمنطقة،‭ ‬حيث‭ ‬الشباب‭ ‬يمثلون‭ ‬نسبة‭ ‬مرتفعة‭ ‬من‭ ‬السكان،‭ ‬يخلق‭ ‬طلبا‭ ‬متزايدا‭ ‬على‭ ‬الخدمات‭ ‬الرقمية،‭ ‬ما‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬الحكومات‭ ‬والمستثمرين‭ ‬الموازنة‭ ‬بين‭ ‬تلبية‭ ‬احتياجات‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬الرقمي،‭ ‬وضمان‭ ‬أمن‭ ‬الطاقة‭ ‬المطلوب‭ ‬لتشغيل‭ ‬البنى‭ ‬التحتية‭ ‬المتنامية‭ ‬للاتصالات‭ ‬والحوسبة‭ ‬السحابية‭ ‬ومراكز‭ ‬البيانات‭.‬

ومن‭ ‬هنا،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬معادلة‭ ‬الطاقة‭ ‬فى‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مرتبطة‭ ‬فقط‭ ‬بإنتاج‭ ‬النفط‭ ‬والغاز‭ ‬أو‭ ‬تأمين‭ ‬طرق‭ ‬الإمداد،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬معركة‭ ‬أوسع‭ ‬لبناء‭ ‬اقتصادات‭ ‬مستدامة‭ ‬رقمية‭ ‬وخضراء،‭ ‬يكون‭ ‬فيها‭ ‬قطاع‭ ‬الاتصالات‭ ‬أحد‭ ‬الأعمدة‭ ‬الرئيسية‭ ‬لتحقيق‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬استدامة‭ ‬الموارد،‭ ‬أمن‭ ‬الإمدادات،‭ ‬والانتقال‭ ‬إلى‭ ‬مستقبل‭ ‬منخفض‭ ‬الكربون‭.‬

التحديات

رغم‭ ‬التقدم‭ ‬الملحوظ‭ ‬الذى‭ ‬حققه‭ ‬قطاع‭ ‬الاتصالات‭ ‬فى‭ ‬إدارة‭ ‬ملف‭ ‬الطاقة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الطريق‭ ‬نحو‭ ‬الحياد‭ ‬الكربونى‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬مليئا‭ ‬بالتحديات‭. ‬أول‭ ‬هذه‭ ‬التحديات‭ ‬يتعلق‭ ‬بقياس‭ ‬الكفاءة‭ ‬الطاقة‭. ‬فكما‭ ‬يشير‭ ‬تقرير‭ ‬The Mobile Economy 2025،‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬معيار‭ ‬عالمى‭ ‬موحد‭ ‬لقياس‭ ‬استهلاك‭ ‬الطاقة‭ ‬للشبكات‭. ‬يختلف‭ ‬الأداء‭ ‬بحسب‭ ‬كثافة‭ ‬المرور،‭ ‬البنية‭ ‬التحتية،‭ ‬ومزيج‭ ‬مصادر‭ ‬الكهرباء‭. ‬هذا‭ ‬الغياب‭ ‬لإطار‭ ‬موحد‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬على‭ ‬المشغلين‭ ‬مقارنة‭ ‬أدائهم‭ ‬أو‭ ‬إبراز‭ ‬إنجازاتهم‭ ‬بشكل‭ ‬شفاف‭ ‬أمام‭ ‬المستثمرين‭ ‬والهيئات‭ ‬التنظيمية‭.‬

التحدى‭ ‬الثانى‭ ‬يتمثل‭ ‬فى‭ ‬اعتماد‭ ‬بعض‭ ‬الأسواق‭ ‬على‭ ‬مصادر‭ ‬طاقة‭ ‬غير‭ ‬متجددة‭. ‬ففى‭ ‬مناطق‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬إفريقيا‭ ‬وآسيا،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬محطات‭ ‬الاتصالات‭ ‬تعمل‭ ‬بالديزل‭ ‬أو‭ ‬الكهرباء‭ ‬المنتجة‭ ‬من‭ ‬الفحم‭ ‬والغاز،‭ ‬هذا‭ ‬الاعتماد‭ ‬يحد‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬الشركات‭ ‬على‭ ‬خفض‭ ‬الانبعاثات،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬حسنت‭ ‬الكفاءة‭ ‬الداخلية‭ ‬للشبكة‭.‬

أما‭ ‬التحدى‭ ‬الثالث‭ ‬فهو‭ ‬التكلفة‭ ‬العالية‭ ‬للاستثمارات‭ ‬المطلوبة‭ ‬للتحول‭. ‬شراء‭ ‬الكهرباء‭ ‬الخضراء‭ ‬عبر‭ ‬عقود‭ ‬طويلة‭ ‬الأجل‭ ‬أو‭ ‬بناء‭ ‬محطات‭ ‬شمسية‭ ‬ورياح‭ ‬يتطلب‭ ‬رأس‭ ‬مال‭ ‬ضخم،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يتوفر‭ ‬لشركات‭ ‬كبرى‭ ‬مثل‭ ‬China Mobile‭ ‬أو‭ ‬STC،‭ ‬لكنه‭ ‬يشكل‭ ‬عبئا‭ ‬ثقيلا‭ ‬على‭ ‬الشركات‭ ‬الأصغر‭ ‬أو‭ ‬المشغلين‭ ‬فى‭ ‬الأسواق‭ ‬الناشئة‭.‬

بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬هناك‭ ‬معضلة‭ ‬التوفيق‭ ‬بين‭ ‬التوسع‭ ‬الشبكى‭ ‬والاستدامة‭. ‬فمع‭ ‬نمو‭ ‬الطلب‭ ‬على‭ ‬خدمات‭ ‬الجيل‭ ‬الخامس‭ ‬والجيل‭ ‬الخامس‭ ‬المتقدم،‭ ‬يحتاج‭ ‬المشغلون‭ ‬إلى‭ ‬زيادة‭ ‬عدد‭ ‬المحطات‭ ‬والقدرات‭ ‬الاستيعابية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعنى‭ ‬تلقائيا‭ ‬ارتفاع‭ ‬استهلاك‭ ‬الكهرباء‭. ‬التحدى‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬كيفية‭ ‬تلبية‭ ‬هذا‭ ‬النمو‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬أهداف‭ ‬خفض‭ ‬الانبعاثات‭.‬

هذه‭ ‬المعضلات‭ ‬توضح‭ ‬أن‭ ‬الإنجازات‭ ‬الحالية،‭ ‬على‭ ‬أهميتها،‭ ‬لا‭ ‬تكفى‭ ‬وحدها‭. ‬فالقطاع‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تعاون‭ ‬أوثق‭ ‬مع‭ ‬الحكومات،‭ ‬وتطوير‭ ‬أدوات‭ ‬تمويل‭ ‬مبتكرة،‭ ‬وتبنى‭ ‬أطر‭ ‬قياس‭ ‬موحدة،‭ ‬حتى‭ ‬يصبح‭ ‬مساره‭ ‬نحو‭ ‬صافى‭ ‬الصفر‭ ‬أكثر‭ ‬استدامة‭ ‬وقابلية‭ ‬للتحقق‭.‬

الفرص‭ ‬المستقبلية

رغم‭ ‬التحديات،‭ ‬يفتح‭ ‬ملف‭ ‬الطاقة‭ ‬فى‭ ‬قطاع‭ ‬الاتصالات‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬فرص‭ ‬استراتيجية‭ ‬قد‭ ‬تعيد‭ ‬رسم‭ ‬خريطة‭ ‬الصناعة‭. ‬أول‭ ‬هذه‭ ‬الفرص‭ ‬يرتبط‭ ‬بالتطور‭ ‬التكنولوجى‭ ‬نفسه‭. ‬فمع‭ ‬دخول‭ ‬خدمات‭ ‬الجيل‭ ‬الخامس‭ ‬المتقدمة،‭ ‬والاستعداد‭ ‬لحقبة‭ ‬الجيل‭ ‬السادس‭ ‬6G،‭ ‬أصبحت‭ ‬هناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الإمكانيات‭ ‬غير‭ ‬المسبوقة‭ ‬لاستخدام‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعى‭ ‬والتقنيات‭ ‬الافتراضية‭ ‬فى‭ ‬إدارة‭ ‬الشبكات‭. ‬تؤكد‭ ‬تقاريرGSMA‭ ‬أن‭ ‬تقنيات‭ ‬مثل‭ ‬الشبكات‭ ‬الافتراضية،‭ ‬وإدارة‭ ‬الحمل‭ ‬الديناميكى‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬خفض‭ ‬استهلاك‭ ‬الطاقة‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تشغيل‭ ‬أجزاء‭ ‬الشبكة‭ ‬عند‭ ‬الحاجة‭ ‬فقط‭ ‬وإيقافها‭ ‬عند‭ ‬انخفاض‭ ‬الاستخدام‭.‬

الفرصة‭ ‬الثانية‭ ‬تتمثل‭ ‬فى‭ ‬إمكانية‭ ‬تصدير‭ ‬خبرات‭ ‬الاتصالات‭ ‬إلى‭ ‬قطاعات‭ ‬أخرى‭. ‬فنجاح‭ ‬شركات‭ ‬الاتصالات‭ ‬فى‭ ‬تحسين‭ ‬كفاءتها‭ ‬الطاقة‭ ‬بنسبة‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬10‭ ‬و‭ ‬30‭ % ‬سنويا،‭ ‬كما‭ ‬أشار‭ ‬تقريرMobile Net Zero 2025،‭ ‬يجعلها‭ ‬نموذجا‭ ‬يحتذى‭ ‬به‭ ‬للصناعات‭ ‬الثقيلة‭ ‬مثل‭ ‬النقل‭ ‬والتصنيع‭. ‬ويمكن‭ ‬لهذه‭ ‬الخبرات‭ ‬أن‭ ‬تنتقل‭ ‬عبر‭ ‬الشراكات‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقديم‭ ‬الاتصالات‭ ‬كخدمات‭ ‬إدارة‭ ‬طاقة‭ ‬للغير‭.‬

الفرصة‭ ‬الثالثة‭ ‬هى‭ ‬بروز‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الشبكة‭ ‬الخضراء‮»‬‭ ‬كميزة‭ ‬تنافسية‭. ‬فى‭ ‬سوق‭ ‬يتزايد‭ ‬فيه‭ ‬وعى‭ ‬المستهلكين‭ ‬والمستثمرين،‭ ‬قد‭ ‬يتحول‭ ‬الأداء‭ ‬البيئى‭ ‬لشركة‭ ‬اتصالات‭ ‬إلى‭ ‬عامل‭ ‬حاسم‭ ‬فى‭ ‬بناء‭ ‬سمعتها‭ ‬وجذب‭ ‬عملاء‭ ‬جدد‭. ‬فالمستهلكون،‭ ‬خصوصا‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬الشابة،‭ ‬أصبحوا‭ ‬أكثر‭ ‬ميلا‭ ‬لاختيار‭ ‬العلامات‭ ‬التجارية‭ ‬التى‭ ‬تتبنى‭ ‬سياسات‭ ‬استدامة‭ ‬واضحة‭.‬

أخيرا،‭ ‬يبرز‭ ‬البعد‭ ‬الزمني‭. ‬فبحسب‭ ‬تحذيرات‭ ‬TechRadar،‭ ‬يتعين‭ ‬على‭ ‬المشغلين‭ ‬خفض‭ ‬انبعاثاتهم‭ ‬بمعدل‭ ‬7‭.‬5‭ % ‬سنويا‭ ‬حتى‭ ‬2030‭ ‬للالتزام‭ ‬بمسار‭ ‬صافى‭ ‬الصفر‭. ‬وهذا‭ ‬التحدي،‭ ‬رغم‭ ‬صعوبته،‭ ‬يخلق‭ ‬فرصة‭ ‬لتسريع‭ ‬الاستثمار‭ ‬فى‭ ‬الابتكار‭ ‬وتطوير‭ ‬نماذج‭ ‬أعمال‭ ‬جديدة‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الطاقة‭ ‬المتجددة‭ ‬والشراكات‭ ‬العابرة‭ ‬للقطاعات‭.‬

فى‭ ‬النهاية،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الفرص‭ ‬المستقبلية‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬خفض‭ ‬التكاليف‭ ‬أو‭ ‬تلبية‭ ‬التزامات‭ ‬المناخ،‭ ‬بل‭ ‬تتعداها‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬ميزة‭ ‬استراتيجية‭ ‬طويلة‭ ‬المدى‭ ‬قد‭ ‬تحدد‭ ‬من‭ ‬سيكون‭ ‬فى‭ ‬صدارة‭ ‬سوق‭ ‬الاتصالات‭ ‬خلال‭ ‬العقد‭ ‬القادم‭.‬

الاستدامة‭ ‬الرقمية

من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬قطاع‭ ‬الاتصالات‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مجرد‭ ‬مستهلك‭ ‬للطاقة،‭ ‬بل‭ ‬بات‭ ‬لاعبا‭ ‬محوريا‭ ‬فى‭ ‬معادلة‭ ‬تحول‭ ‬الطاقة‭ ‬العالمي‭. ‬فمن‭ ‬واقع‭ ‬أرقام‭ ‬GSMA‭ ‬التى‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬الطاقة‭ ‬تمثل‭ ‬20‭ % ‬من‭ ‬نفقات‭ ‬المشغلين،‭ ‬مرورا‭ ‬ببياناتMobile Net Zero 2025‭ ‬التى‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬انخفاض‭ ‬الانبعاثات‭ ‬بنسبة‭ ‬8‭ % ‬رغم‭ ‬تضاعف‭ ‬حركة‭ ‬البيانات،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬التحذيرات‭ ‬الدولية‭ ‬من‭ ‬ضرورة‭ ‬خفض‭ ‬الانبعاثات‭ ‬بمعدل‭ ‬7‭.‬5‭ % ‬سنويا‭ ‬حتى‭ ‬2030،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬التحديات‭ ‬لا‭ ‬تنفصل‭ ‬عن‭ ‬الفرص‭. ‬والنماذج‭ ‬التى‭ ‬استعرضناها‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬إدارة‭ ‬الطاقة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬من‭ ‬عبء‭ ‬مالى‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬للابتكار‭ ‬والتميز،‭ ‬خصوصا‭ ‬إذا‭ ‬ارتبطت‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬مباشرة‭ ‬باستراتيجيات‭ ‬وطنية‭ ‬كبرى،‭ ‬ما‭ ‬يعزز‭ ‬دور‭ ‬الاتصالات‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬منظومة‭ ‬أمن‭ ‬الطاقة‭ ‬والاستدامة‭ ‬الإقليمية‭.‬

والمؤكد‭ ‬أن‭ ‬مستقبل‭ ‬الشبكات‭ ‬لن‭ ‬يتم‭ ‬قياسه‭ ‬فقط‭ ‬بسرعة‭ ‬التنزيل‭ ‬أو‭ ‬سعة‭ ‬النطاق‭ ‬الترددي،‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬بمدى‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬كل‭ ‬جيجابايت‭ ‬من‭ ‬البيانات‭ ‬بأقل‭ ‬قدر‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الكيلوواط‭/‬ساعة‭ ‬والانبعاثات‭. ‬وهنا‭ ‬تتجلى‭ ‬القيمة‭ ‬الحقيقية‭ ‬لقطاع‭ ‬الاتصالات‭ ‬الذى‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يثبت‭ ‬أن‭ ‬الابتكار‭ ‬التقنى‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬أداة‭ ‬اقتصادية،‭ ‬ورافعة‭ ‬بيئية،‭ ‬وجسرا‭ ‬إلى‭ ‬انتقال‭ ‬طاقة‭ ‬عالمى‭ ‬أكثر‭ ‬استدامة‭.‬

اخر اصدار