أشرف شهاب
ارتبطت الصورة الذهنية لصناعة الاتصالات تقليديا بصورة الأبراج الشاهقة التى تستهلك كميات هائلة من الكهرباء على مدار الساعة، ومولدات الديزل التى تعمل عند انقطاع الطاقة الكهربائية. ووفقا لتقرير الرابطة العالمية لمشغلى شبكات الاتصالات GSMA الصادر تحت عنوان: GSMA Mobile Net Zero 2025،
فإن شبكات الاتصالات تستهلك نحو 290 تيراواط/ساعة من الكهرباء سنويا، أى ما يقارب 1 % من الاستهلاك العالمى للطاقة. هذا الحجم الهائل جعل القطاع يقع لعقود طويلة تحت تصنيف كبار المستهلكين للطاقة فى الاقتصاد الرقمي.
لكن المفارقة أن القطاع نفسه بات يحقق نجاحات ملحوظة فى خفض انبعاثاته الكربونية. فبحسب بيانات نشرها موقع TechRadar، ورغم أن حركة البيانات عبر الشبكات تضاعفت أربع مرات بين عامى 2019 و 2023، فإن الانبعاثات التشغيلية للشبكات انخفضت بنسبة 8 % خلال الفترة نفسها، وهو إنجاز يعكس التقدم فى كفاءة الشبكات والتحول نحو الطاقة المتجددة.
اليوم، لم تعد الطاقة مجرد بند فى قائمة التكاليف، بل أصبحت ميدانا للتنافس الاستراتيجي. ويشير تقرير The Mobile Economy 2025 إلى أن الطاقة تمثل نحو 20 % من النفقات التشغيلية لشبكات المحمول، ما يجعل إدارتها بكفاءة ضرورة اقتصادية بقدر ما هى بيئية. ومن استخدام الذكاء الاصطناعى لتخطيط الشبكات، إلى الاستثمار فى مصادر الطاقة النظيفة، يتحول قطاع الاتصالات إلى مختبر عالمى لحلول مستقبلية لمشكلات الطاقة من خلال التحول التدريجى من الاعتماد على المصادر التقليدية عالية الكربون إلى المصادر النظيفة المنخفضة الكربون، مثل الطاقة الشمسية، طاقة الرياح، الهيدروجين الأخضر، والنووي، مع تحسين كفاءة الاستخدام وتقليل الهدر.
حجم المشكلة
إذا كانت الاتصالات قد أثبتت قدرتها على خفض الانبعاثات فى السنوات الأخيرة، فإن التحدى الأكبر لا يزال قائما، فاستهلاك الطاقة طبقا لتقريرThe Mobile Economy 2025 يجعلها ثانى أكبر بند تكلفة بعد الإنفاق الرأسمالى على البنية التحتية، وهذا الرقم يفسر لماذا تتعامل الشركات مع إدارة الطاقة باعتبارها قضية مالية بقدر ما هى بيئية.
على المستوى الكلي، تشير البيانات إلى أن استهلاك مشغلى شبكات المحمول عام 2023 الذى قارب290 تيراواط/ساعة من الكهرباء، يعادل استهلاك دول متوسطة الحجم مثل إسبانيا أو مصر مجتمعة، وهذه الكمية تشكل نحو 1 % من إجمالى الاستهلاك العالمى للكهرباء، وهو رقم يبدو صغيرا نسبيا لكنه ضخم بالنظر إلى أن قطاعًا واحدًا فقط يستحوذ عليه.
وتزداد المشكلة تعقيدا مع نمو حركة البيانات. فوفقا لتقرير TechRadar، ارتفع حجم البيانات المنقولة عبر شبكات المحمول أربع مرات بين عامى 2019 و2023، ومن المتوقع أن يستمر النمو بالوتيرة نفسها مع انتشار الجيل الخامس، وبدء الحديث عن الجيل السادس. وإذا لم تواكب كفاءة الطاقة هذا النمو، فإن استهلاك الكهرباء والانبعاثات الكربونية سيتضاعفان بوتيرة غير مسبوقة، مما يجعل هذه القضية ليست مجرد خيار استراتيجي، بل مسألة بقاء اقتصادى وبيئى فى آن واحد: إما أن ينجح المشغلون فى كبح استهلاك الطاقة، أو يواجهوا ضغوطا مالية وتنظيمية قد تعرقل توسعهم فى المستقبل.
السياق العالمى للطاقة
لا يمكن النظر إلى استهلاك الطاقة فى قطاع الاتصالات بمعزل عن المشهد العالمى الأشمل. فوفقا لتقارير الوكالة الدولية للطاقة (IEA)، تعتبر كفاءة الطاقة “الوقود الأول” للتحول نحو مصادر أنظف (بمعنى أن كل وحدة طاقة يتم توفيرها عبر الكفاءة تساوى وحدة طاقة جديدة يمكن استخدامها)، لأنها الوسيلة الأسرع والأكثر فعالية لخفض انبعاثات ثانى أكسيد الكربون، وتقليل فواتير الكهرباء، وتعزيز أمن الطاقة فى وقت تتزايد فيه الأزمات الجيوسياسية. وتضيف الوكالة أن تحسين الكفاءة لا يقل أهمية عن بناء محطات شمسية أو مزارع رياح جديدة، إذ إنه «الطاقة التى لا نحتاج لاستهلاكها أصلا.
خلال قمة المناخ COP28، التزمت الدول المشاركة بمضاعفة معدل التقدم فى كفاءة الطاقة عالميا بحلول عام 2030. لكن الواقع الفعلى ما زال بعيدا عن هذا الهدف؛ إذ لا يتجاوز معدل التحسن السنوى حاليا 1 %، بينما المطلوب هو ما بين 4 % إلى 5 % سنويا حتى نهاية العقد الحالى. هذا التباطؤ يضع عبئا إضافيا على القطاعات الأكثر استهلاكا للطاقة، ومنها الاتصالات، التى ينتظر منها لعب دور نموذجى فى تقليص الانبعاثات.
ما يميز الاتصالات مقارنة بقطاعات أخرى كالنقل أو الصناعة الثقيلة، هو أن تأثير كفاءة الطاقة فيها يظهر سريعا نسبيا. فكل تحسين فى استهلاك الكهرباء لكل جيجابايت من البيانات المنقولة تتم ترجمته مباشرة إلى ملايين الأطنان من الانبعاثات التى تم تجنبها. ولذلك ترى تقارير مثل GSMA Mobile Net Zero 2025 أن النجاح الذى حققته الشركات المشغلة لشبكات المحمول فى تحسين الكفاءة بين 10 % و 30 % سنويا خلال الفترة بين 2019 و 2023، يعد نموذجا عمليا يمكن أن الاقتداء به فى قطاعات أخرى.
بعبارة أخرى، السياق العالمى يضع كفاءة الطاقة فى قلب استراتيجيات المناخ، لكن قطاع الاتصالات يبرهن أنه قادر على تحويل هذه الأجندة من أهداف سياسية إلى نتائج ملموسة.
إنجازات الاتصالات
هذا النجاح الذى حققه قطاع الاتصالات كان ملفتا لأن وراءه حقيقة تقول إن حركة البيانات عبر الشبكات تضاعفت 4 مرات خلال تلك السنوات، مما يضعنا أمام حقيقة أن الانبعاثات التشغيلية للمشغلين سجلت انخفاضا قدره 8 % خلال الفترة نفسها. وهذه المفارقة توضح كيف يمكن للتطور التكنولوجى أن يعوض النمو المتسارع فى الطلب على البيانات. وهذا التطور لم يأتِ من فراغ، بل نتيجة تحديث المعدات، إدخال الذكاء الاصطناعى فى إدارة الشبكات، واعتماد بنى تحتية أكثر مرونة وكفاءة.
وإلى جانب كفاءة استهلاك الطاقة، لعبت الطاقة المتجددة دورا محوريا. فحصة الكهرباء النظيفة فى إجمالى استهلاك المشغلين ارتفعت من 14 % عام 2019 إلى 37 % فى 2023، ما ساعد على خفض الانبعاثات بنسبة 32 % خلال الفترة نفسها. وتفاوتت طرق الوصول إلى هذه النتيجة بين شركات أبرمت عقود شراء طويلة الأجل مع مزودى الكهرباء الخضراء، وأخرى استثمرت فى محطات شمسية أو مزارع رياح خاصة بها.
وتكشف هذه المؤشرات أن القطاع قادر على تحقيق تقدم ملموس عندما تتوفر الإرادة والاستثمار. ومع ذلك، فإن التحدى مازال قائما، إذ يحذر خبراء الطاقة من أن بلوغ مسار صافى الصفر انبعاثات كربونية بحلول 2050 يتطلب خفضا سنويا للانبعاثات بنسبة 7.5 % على الأقل حتى 2030. بعبارة أخرى، الإنجازات الحالية تبعث على التفاؤل، لكنها ما زالت خطوة أولى فى مسيرة طويلة تتطلب تسارعا أكبر فى السنوات القادمة.
شركات تقود التغيير
رغم أن التوجه نحو كفاءة الطاقة فى قطاع الاتصالات أصبح مسارا عاما، فإن بعض الشركات تحولت إلى رواد عالميين يقدمون نماذج ملموسة لكيفية تحويل الطموحات إلى واقع. يبرز تقريرThe Mobile Economy 2025 عدة تجارب يمكن أن تعد بمثابة مختبرات للانتقال الطاقة، تختلف فى السياق الجغرافى لكنها تشترك فى الهدف: تقليل الانبعاثات وخفض التكاليف التشغيلية عبر الابتكار.
تعتبر شركة China Mobile، أكبر مشغل فى العالم من حيث عدد المشتركين، وقد تبنت مقاربة قائمة على دمج الجيل الخامس المتقدم مع تقنيات الذكاء الاصطناعى من أجل بناء ما تسميه «مجتمع طاقة نظيفة». وتعتمد الفكرة على استخدام البيانات الضخمة والتحليلات التنبؤية لإدارة استهلاك الطاقة فى آلاف المحطات عبر الصين. والنتيجة أن كل زيادة فى حركة البيانات لا تعنى بالضرورة زيادة موازية فى استهلاك الكهرباء، وهو ما يمنح الشركة ميزة تنافسية فى سوق شديد الكثافة.
أما فى الشرق الأوسط، فقد اتخذت شركة الاتصالات السعودية (STC) خطوات لافتة من خلال توظيف الذكاء الاصطناعى فى تخطيط الشبكات وتوسعتها. وتصف الشركة هذا التحول بأنه أكبر توسع شبكى فى تاريخها، لكنه يجرى ضمن استراتيجية تضمن التوافق مع هدف المملكة المعلن للوصول إلى صافى صفر انبعاثات بحلول عام 2060. هذا المثال يعكس كيف يمكن ربط أهداف الشركات التشغيلية باستراتيجيات وطنية أوسع، مثل رؤية السعودية 2030 التى تضع الاستدامة كأحد محاورها الرئيسية.
فى الجنوب الإفريقي، تواجه Openserve، المتخصصة فى البنية التحتية للاتصالات ضمن مجموعة Telkom South Africa، تحديات مختلفة تماما. فعدم استقرار شبكة الكهرباء الوطنية يفرض واقعا معقدا يتطلب حلولا هجينة. طورت الشركة نظاما لإدارة الطاقة يعتمد على دمج بيانات الطقس وانقطاعات الكهرباء مع بيانات تشغيل الشبكة، لتحديد المزج الأمثل بين مولدات الديزل، البطاريات، وشبكة الكهرباء العامة. هذا الابتكار لا يحل فقط مشكلة بيئية، بل يعزز أيضا موثوقية الخدمة فى سوق يشهد انقطاعات يومية.
تجربة أخرى مهمة قامت بها شركة Hong Kong Telecom، التى استثمرت فى منصة تشغيلية تعتمد على البيانات والنماذج المفتوحة لإعادة هيكلة المواقع الشبكية. تستخدم تستخدم الطائرات بدون طيار لفحص الأبراج وإجراء صيانة استباقية، وتستكشف فى الوقت نفسه تطبيقات طبية طارئة تعتمد على الشبكات الخضراء عالية الكفاءة. هذا الدمج بين الكفاءة الطاقة والخدمات المجتمعية يوضح كيف يمكن للاتصالات أن تلعب دورا يتجاوز الاقتصاد ليصل إلى التنمية الاجتماعية.
هذه النماذج المختلفة، من الصين إلى السعودية وجنوب إفريقيا وهونج كونج، تكشف أن مسألة الطاقة لم تعد بندا محاسبيا داخليا، بل أصبحت مجالا للإبداع والتنافسية. وكل شركة تجد طريقها الخاص استنادا إلى مواردها وظروفها، لكنها جميعا تسهم فى إعادة تعريف دور الاتصالات: من مجرد «مستهلك طاقة» إلى «مختبر عالمى للابتكار فى الطاقة».
الشرق الأوسط وأمن الطاقة
يكتسب ملف الطاقة فى الشرق الأوسط خصوصية مختلفة عن بقية العالم. فالمنطقة، التى تعد من أكبر منتجى النفط والغاز عالميا، تواجه مفارقة واضحة: من جهة لديها وفرة من الموارد التقليدية تجعل الكهرباء متاحة بكلفة أقل نسبيا، ومن جهة أخرى تتبنى حكوماتها استراتيجيات طموحة للتحول نحو الطاقة المتجددة والتزامات دولية بالوصول إلى الحياد الكربوني. هذه المفارقة تنعكس بوضوح على قطاع الاتصالات، الذى يجد نفسه فى موقع مثالى ليكون جسرا بين «اقتصاد الهيدروكربون» و»اقتصاد الطاقة النظيفة».
وتزداد أهمية هذه المفارقة فى ضوء أن الشرق الأوسط لا يعتبر مجرد منتج رئيسى للطاقة، بل هو أيضا مركز حيوى لأمن الطاقة العالمي، حيث تمر عبره أهم ممرات الشحن البحرى مثل مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس، التى يعتمد عليها جزء كبير من تجارة النفط والغاز المسال. هذا الدور الاستراتيجى يجعل أى توترات سياسية أو نزاعات إقليمية ذات تأثير فورى على استقرار الأسواق وأسعار الطاقة عالميا.
من ناحية أخرى، تتسابق دول المنطقة، وعلى رأسها مصر والسعودية والإمارات وقطر، للاستثمار فى مشاريع الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر. هذه الاستثمارات لا ترتبط فقط بالتحول البيئي، بل أيضا بالرغبة فى تنويع الاقتصادات الوطنية وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسى للإيرادات. وفى هذا السياق، يظهر قطاع الاتصالات والتكنولوجيا باعتباره أداة أساسية لتمكين هذا التحول، عبر إدارة الشبكات الذكية للطاقة، وإنشاء منصات رقمية لمراقبة الاستهلاك والإنتاج، وتوظيف الذكاء الاصطناعى فى رفع الكفاءة.
كذلك، فإن الطابع الديمغرافى للمنطقة، حيث الشباب يمثلون نسبة مرتفعة من السكان، يخلق طلبا متزايدا على الخدمات الرقمية، ما يفرض على الحكومات والمستثمرين الموازنة بين تلبية احتياجات هذا الجيل الرقمي، وضمان أمن الطاقة المطلوب لتشغيل البنى التحتية المتنامية للاتصالات والحوسبة السحابية ومراكز البيانات.
ومن هنا، يمكن القول إن معادلة الطاقة فى الشرق الأوسط لم تعد مرتبطة فقط بإنتاج النفط والغاز أو تأمين طرق الإمداد، بل أصبحت جزءا من معركة أوسع لبناء اقتصادات مستدامة رقمية وخضراء، يكون فيها قطاع الاتصالات أحد الأعمدة الرئيسية لتحقيق التوازن بين استدامة الموارد، أمن الإمدادات، والانتقال إلى مستقبل منخفض الكربون.
التحديات
رغم التقدم الملحوظ الذى حققه قطاع الاتصالات فى إدارة ملف الطاقة، إلا أن الطريق نحو الحياد الكربونى ما زال مليئا بالتحديات. أول هذه التحديات يتعلق بقياس الكفاءة الطاقة. فكما يشير تقرير The Mobile Economy 2025، لا يوجد حتى الآن معيار عالمى موحد لقياس استهلاك الطاقة للشبكات. يختلف الأداء بحسب كثافة المرور، البنية التحتية، ومزيج مصادر الكهرباء. هذا الغياب لإطار موحد يجعل من الصعب على المشغلين مقارنة أدائهم أو إبراز إنجازاتهم بشكل شفاف أمام المستثمرين والهيئات التنظيمية.
التحدى الثانى يتمثل فى اعتماد بعض الأسواق على مصادر طاقة غير متجددة. ففى مناطق كثيرة من إفريقيا وآسيا، لا تزال محطات الاتصالات تعمل بالديزل أو الكهرباء المنتجة من الفحم والغاز، هذا الاعتماد يحد من قدرة الشركات على خفض الانبعاثات، حتى لو حسنت الكفاءة الداخلية للشبكة.
أما التحدى الثالث فهو التكلفة العالية للاستثمارات المطلوبة للتحول. شراء الكهرباء الخضراء عبر عقود طويلة الأجل أو بناء محطات شمسية ورياح يتطلب رأس مال ضخم، وهو ما قد يتوفر لشركات كبرى مثل China Mobile أو STC، لكنه يشكل عبئا ثقيلا على الشركات الأصغر أو المشغلين فى الأسواق الناشئة.
بالإضافة إلى ذلك، هناك معضلة التوفيق بين التوسع الشبكى والاستدامة. فمع نمو الطلب على خدمات الجيل الخامس والجيل الخامس المتقدم، يحتاج المشغلون إلى زيادة عدد المحطات والقدرات الاستيعابية، وهو ما يعنى تلقائيا ارتفاع استهلاك الكهرباء. التحدى هنا هو كيفية تلبية هذا النمو دون أن يتعارض مع أهداف خفض الانبعاثات.
هذه المعضلات توضح أن الإنجازات الحالية، على أهميتها، لا تكفى وحدها. فالقطاع بحاجة إلى تعاون أوثق مع الحكومات، وتطوير أدوات تمويل مبتكرة، وتبنى أطر قياس موحدة، حتى يصبح مساره نحو صافى الصفر أكثر استدامة وقابلية للتحقق.
الفرص المستقبلية
رغم التحديات، يفتح ملف الطاقة فى قطاع الاتصالات الباب أمام فرص استراتيجية قد تعيد رسم خريطة الصناعة. أول هذه الفرص يرتبط بالتطور التكنولوجى نفسه. فمع دخول خدمات الجيل الخامس المتقدمة، والاستعداد لحقبة الجيل السادس 6G، أصبحت هناك العديد من الإمكانيات غير المسبوقة لاستخدام الذكاء الاصطناعى والتقنيات الافتراضية فى إدارة الشبكات. تؤكد تقاريرGSMA أن تقنيات مثل الشبكات الافتراضية، وإدارة الحمل الديناميكى قادرة على خفض استهلاك الطاقة بشكل كبير، من خلال تشغيل أجزاء الشبكة عند الحاجة فقط وإيقافها عند انخفاض الاستخدام.
الفرصة الثانية تتمثل فى إمكانية تصدير خبرات الاتصالات إلى قطاعات أخرى. فنجاح شركات الاتصالات فى تحسين كفاءتها الطاقة بنسبة تتراوح بين 10 و 30 % سنويا، كما أشار تقريرMobile Net Zero 2025، يجعلها نموذجا يحتذى به للصناعات الثقيلة مثل النقل والتصنيع. ويمكن لهذه الخبرات أن تنتقل عبر الشراكات أو من خلال تقديم الاتصالات كخدمات إدارة طاقة للغير.
الفرصة الثالثة هى بروز مفهوم «الشبكة الخضراء» كميزة تنافسية. فى سوق يتزايد فيه وعى المستهلكين والمستثمرين، قد يتحول الأداء البيئى لشركة اتصالات إلى عامل حاسم فى بناء سمعتها وجذب عملاء جدد. فالمستهلكون، خصوصا من الأجيال الشابة، أصبحوا أكثر ميلا لاختيار العلامات التجارية التى تتبنى سياسات استدامة واضحة.
أخيرا، يبرز البعد الزمني. فبحسب تحذيرات TechRadar، يتعين على المشغلين خفض انبعاثاتهم بمعدل 7.5 % سنويا حتى 2030 للالتزام بمسار صافى الصفر. وهذا التحدي، رغم صعوبته، يخلق فرصة لتسريع الاستثمار فى الابتكار وتطوير نماذج أعمال جديدة تعتمد على الطاقة المتجددة والشراكات العابرة للقطاعات.
فى النهاية، يمكن القول إن الفرص المستقبلية لا تقتصر على خفض التكاليف أو تلبية التزامات المناخ، بل تتعداها إلى بناء ميزة استراتيجية طويلة المدى قد تحدد من سيكون فى صدارة سوق الاتصالات خلال العقد القادم.
الاستدامة الرقمية
من الواضح أن قطاع الاتصالات لم يعد مجرد مستهلك للطاقة، بل بات لاعبا محوريا فى معادلة تحول الطاقة العالمي. فمن واقع أرقام GSMA التى تؤكد أن الطاقة تمثل 20 % من نفقات المشغلين، مرورا ببياناتMobile Net Zero 2025 التى تكشف عن انخفاض الانبعاثات بنسبة 8 % رغم تضاعف حركة البيانات، وصولا إلى التحذيرات الدولية من ضرورة خفض الانبعاثات بمعدل 7.5 % سنويا حتى 2030، نجد أن التحديات لا تنفصل عن الفرص. والنماذج التى استعرضناها تؤكد أن إدارة الطاقة يمكن أن تتحول من عبء مالى إلى أداة للابتكار والتميز، خصوصا إذا ارتبطت هذه الجهود مباشرة باستراتيجيات وطنية كبرى، ما يعزز دور الاتصالات كجزء من منظومة أمن الطاقة والاستدامة الإقليمية.
والمؤكد أن مستقبل الشبكات لن يتم قياسه فقط بسرعة التنزيل أو سعة النطاق الترددي، بل أيضا بمدى قدرتها على نقل كل جيجابايت من البيانات بأقل قدر ممكن من الكيلوواط/ساعة والانبعاثات. وهنا تتجلى القيمة الحقيقية لقطاع الاتصالات الذى يمكنه أن يثبت أن الابتكار التقنى يمكن أن يكون فى الوقت نفسه أداة اقتصادية، ورافعة بيئية، وجسرا إلى انتقال طاقة عالمى أكثر استدامة.