كتب: جمال فاضل
تتحرك الدولة المصرية فى مجال الاستدامة والتمويل المستدام على عدة محاور، أحدها ستستثمر 336 مليار جنيه فى مشروعات خضراء بقطاعات مثل: النقل، الكهرباء، الرى، الإسكان، بهدف تحقيق نسبة الاستثمارات العامة الخضراء 40% فى خطة التنمية للعام المالى 2022/2023، و50% بنهاية العام المالى 2024/2025، وهى الاستثمارات التى تمثل اختبارا جديدا لمصر بعد اختبار إصدارها السندات الخضراء واستحقاقها تصنيف "أول دولة فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تصدر السندات الخضراء" ثم إعلان انتهاء جميع البنوك المصرية من قياس البصمة الكربونية لمبانيها الرئيسية.
أكد حسن عبد الله، محافظ البنك المركزى المصرى، أن التمويل المستدام على رأس أولويات البنك حاليا، وسيبقى فى السنوات القادمة، فقد وجه المركزى المصرى البنوك بإدراج مفاهيم الاستدامة والتمويل المستدام فى العمليات الداخلية للبنوك وأنشطة التمويل والاستثمار من خلال العديد من الإجراءات والمبادرات والتعليمات الرقابية التى تعزز مفاهيم الاستدامة لدى البنوك.
وشدد -فى كلمة ألقاها ممثلا عنه شريف لقمان وكيل المحافظ لقطاع الشمول المالى والاستدامة- فى "منتدى الاستدامة والتمويل المستدام" الذى نظمه اتحاد المصارف العربية، على الدور المحورى للبنوك المركزية فى تعزيز الانتقال نحو تمويل مستدام من خلال وضع الأطر الرقابية التى تأخذ المخاطر والفرص البيئية والاجتماعية فى الاعتبار وتوفير الآليات والأدوات التى تعزز فرص البنوك نحو تفعيل مبادئ التمويل المستدام وتعزيز فرص التحول نحو الاقتصاد الأخضر، مضيفا أن التمويل المستدام يلعب دورا رئيسيا فى دعم الاستقرار المالى والمصرفى وكذلك تحقيق الالتزامات الدولية المتعلقة بأهداف المناخ والاستدامة. كما يقوم بدور كبير فى خفض التكاليف وزيادة الكفاءة وتخفيف المخاطر وخلق أسواق جديدة ودعم الابتكار وتعزيزه بالدول العربية. وقد ازدادت مطالبات المستهلكين والمستثمرين فى القطاعات المالية بالتحول نحو الاستدامة، لما لها من تأثير إيجابى على أداء الأعمال والشركات.
يشير قائلا: إن الانتقال إلى اقتصاد مستدام التزام طويل الأجل يقدم العديد من الفرص لمواجهة التداعيات البيئية والاجتماعية والتى قد تؤثر سلبا على الأنشطة الاقتصادية، فالبلدان العربية شديدة التأثر بالتغير المناخى لموقعها الجغرافى الذى يعرضها للعديد من الأحداث مثل ارتفاع مستويات البحار وندرة المياه العذبة وعدد من الكوارث الطبيعية، والتى تنعكس على الإنتاج الغذائى، ما جعل التخفيف من حدتها أمرا حاسما.
ولا يقتصر -حسب المصدر ذاته- التمويل المستدام على دمج المخاطر البيئية والاجتماعية فى الأنشطة المصرفية، بل يتعلق الأمر أيضا بإيجاد مصادر جديدة للإيرادات من خلال توجيه رءوس الأموال نحو ممارسات الإقراض والاستثمار التى تولد قيمة بيئية واجتماعية إيجابية، حيث يمثل التمويل المستدام فرصة كبيرة غير مستغلة بالشكل الأمثل، خاصة فى دول الشرق الأوسط التى تتميز بما لديها من أسواق رأسمال متطورة، تجذب المستثمرين من جميع أنحاء العالم نحو ضخ رءوس أموالهم فى المشرعات ذات التأثير البيئى والاجتماعى الإيجابى. كما تتمتع المنطقة العربية بما تمتلكه من طاقة متجددة وفيرة ومنخفضة التكلفة بفرص عظيمة.
وقد أظهرت مصر التزامها بأجندة التنمية المستدامة من خلال تصديقها على اتفاقية باريس للمناخ وأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. كما أطلقت الحكومة المصرية "رؤية مصر 2030" و"الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ 2050" و"استراتيجية الطاقة المستدامة المتكاملة لعام 2035".
ويختم قائلا: يتعين على البلدان المتقدمة أن تقوم بدورها بتوفير الدعم من أجل تحقيق النمو المستدام للبلدان النامية بشكل عادل وهو الدعم الذى تم إقراره فى مؤتمر قمة المناخ بشرم الشيخ COP27 من خلال قرار إنشاء صندوق لتعويض "الخسائر والأضرار" التى تتكبدها الدول النامية.
يستهل محمد الأتربى، رئيس مجلس إدارة اتحاد بنوك مصر، بالتأكيد على حرص الدولة المصرية على دمج الاستدامة البيئية فى الخطط التنموية، فقد كثفت الدولة من حجم الاستثمارات فى المشروعات الخضراء خلال خطة 2022/2023 وفى مجال التحسين البينى بمراعاة البعد البيئى على النحو الذى يساعد فى الحد من التلوث وتحسين جودة الهواء من خلال تقليل انبعاثات الكربون الضارة، ومن المستهدف أن تصل تكلفة المشروعات الخضراء فى خطة الحكومة المصرية إلى 336 مليار جنيه فى العديد من القطاعات مثل النقل، والكهرباء والرى والإسكان، لتبلغ نسبة الاستثمارات العامة الخضراء 40%، من جملة الاستثمارات العامة مع استهداف الوصول لنسبة 50% بنهاية عام 2024/2025.
وتعد مصر أول دولة فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تصدر السندات الخضراء وهى إحدى صور التمويل الأخضر لتمويل المشروعات المستدامة المتعلقة بالبيئة والمناخ فى العديد من القطاعات مثل مشرعات الطاقة النظيفة والنقل الذكى وتحلية مياه البحر والصرف الصحى وغيرها من المشروعات التى تدعم التحول الأخضر ومكافحة التغير المناخى، وقد كانت مصر من أولى الدول التى وقعت على كل الاتفاقيات الخاصة بالمناخ، من بينها اتفاقيتا "كيوتو" و"باريس"، كما اتخذت مصر خطوات جادة أخرى فى هذا الصدد مثل: إطلاق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة التغير المناخى والمجلس الوطنى لمحاربة التغير المناخى، فضلا عن التحول فى استراتيجيتها إلى المشروعات المتعلقة بمحاربة تغير المناخ وآثاره سواء الاتجاه إلى المشروعات البيئة أو مشروعات تقلل من الانبعاثات.
ويرى المصدر ذاته أن التوجه نحو التمويل المستدام يعد من أولويات القطاع المصرفى وهو يعزز الالتزام بدعم التوجه الوطنى لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ويستهدف الخدمات المصرفية التى تراعى العناصر البيئية والاجتماعية والحكومة فى قرارات البنك لدى منح الائتمان أو قراراته الاستثمارية لتحقيق منفعة مستدامة والتنمية لكل الأطراف المعنية والمجتمع ككل، كما أن التمويل المستدام من شأنه أن يساعد فى تقديم حلول مالية ومنتجات مصرفية جديدة ومبتكرة، وفتح مجالات وأسواق جديدة للتمويل، ما يسهم فى تحقيق المزيد من الأرباح وخفض فرص التعثر وبالتالى الحفاظ على جودة محفظة البنك.
يمضى قائلا: دمج معايير الاستدامة فى المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية يشير إلى تحولات جوهرية فى الإفصاحات المالية، ويصحح أوجه قصور فى النظم المحاسبية السائدة التى طالما تجاهلت التكلفة البينية المجتمعية الناتجة عن نشاط المؤسسات، ولا شك فى أن ذلك يدل على أن مفهوم الاستدامة يشهد صعودا فى الأهمية من كونه مادة إلى كونه مكونا أساسيا من الإفصاح المالى للمؤسسات.
وفى السياق ذاته فإن الإفصاحات المالية تشهد تطورات من التركيز على تحقيق الربح فقط على ما تحققه من أرباح مادية ولكن على الأبعاد البيئية المجتمعية وتلك الخاصة بالحوكمة، التى أصبحت جميعها مكونات أساسية لضمان قدرة المؤسسة على استدامة الربحية والنمر، ولا شك فى أن تلك المعايير تتطلب تحول جذرى فى سياسات استراتيجيات المؤسسات المصرفية والشركات.
من جانبه قام اتحاد بنوك مصر بإنشاء لجنة التمويل المستدام بهدف تفعيل دوره فى المساهمة فى وضع مصر على خريطة الدول الرائدة فى مجال هذا النوع من التمويل المستحدث الذى يتيح فرصا واعدة لنمو المؤسسات المالية وبما يوفره من آفاق جديدة للتوسع، وتحقيق نمو من خلال تمويل مشروعات الطاقة النظيفة والترشيد الأمثل لاستخدام الطاقة مع العمل على فتح آفاق للتعاون مع المؤسسات الدولية.
وفى ضوء توجيهات البنك المركزى المصرى بشأن قيام البنوك بإصدار تقارير البصمة الكربونية لمراكزها الرئيسية فقد قامت لجنة التمويل المستدام بموافاة البنوك ببيانات الجهات المتخصصة والتى تقدم خدمات استشارية فى هذا المجال فى حالة رغبة البنوك فى التعاون معها، وقد تم الإعلان خلال قمة المناخ COP27 انتهاء كل البنوك المصرية من قياس البصمة الكربونية لمبانيها واتساقا مع توجهات الدولة والبنك المركزى المصرى نحو التحول إلى تطبيقات الاقتصاد الأخضر.
وقد نجحت البنوك المصرية فى تعبئة الموارد المالية وقامت بتمويل مشروعات التنمية المستدامة بمصر من خلال اكتشاف فرص استثمارية جديدة ورفع كفاءة توجيه الاستثمارات وفقا للأولويات.
يقر د. وسام فتوح، الأمين العام لاتحاد المصارف العربية، بأنه على الرغم من تحقيق تقدم ملحوظ فى موضوع الاستدامة المالية فى الدول العربية إجمالا، فإنه لاتزال تحديات استدامة الدين العام تحديدا تقلق دولا عربية عديدة، ما يؤثر على إطار الاستدامة المالية بشكل عام، وأن موضوعات الاستدامة والتمويل المستدام والصيرفة الخضراء تهم معظم الدول العربية وتشكل هاجسا لها جميعا، وليس دولة بعينها، لارتباطها بشكل أو بآخر بقضايا التطوير، والنمو، والإصلاح، والتنوع الاقتصادى، والتنمية المستدامة، وما يرتبط بها من أمور متعلقة بإدارة مالية الدولة، والسياسات النقدية للبنوك المركزية، ودور القطاع المصرفى بحكم أنه الممول الرئيسى للاقتصاد الوطنى فى الدول العربية، سواء القطاع العام أو القطاع الخاص، وتطبيق قواعد "الحوكمة" الصارمة عند رسم السياسات الاقتصادية الكلية، والتى تتضمن السياسات الاستثمارية العامة، والسياسات الإنمائية والتنموية، والسياسات والإجراءات التنظيمية التى تؤثر بشكل مباشر على مناخ الأعمال والبيئة الاستثمارية والتشغيلية للمؤسسات الاقتصادية.
يضيف أنه على الرغم من اختلاف مستوى الدخل والتطور الاقتصادى فى معظم الدول العربية، فإنها بحاجة إلى البدء بتطبيق، وتفعيل برامج التطوير والإصلاح والتحول الاقتصادى والاستدامة المالية فيها خاصة فى ظل تأخر الإصلاح، وتجميد الأوضاع على ما هى عليه، بما يؤدى إلى الإضرار بالاقتصاد الوطنى، وهروب الاستثمارات الأجنبية وحتى الوطنية، بما فيها دفع الكفاءات الوطنية إلى الهجرة، لافتا إلى أنه فى ظل تراجع إمكانات الدولة على التمويل بسبب تزايد عبء الديون السيادية، فإن التحول الاقتصادى فى الدول العربية يحتاج إلى مشاركة جدية ومساهمة كبيرة من قبل القطاع الخاص العربى، وعلى رأسه القطاع المصرفى، الذى يحوز جزءا كبيرا من مدخرات الشركات والأفراد فى الدول العربية، بحيث يعادل مجموع الودائع فى المصارف العربية، حجم الناتج المحلى الإجمالى المجمع للدول العربية كلها. وبالتالى، فإن جزءا من التمويل اللازم لسياسات الإصلاح والتحول الاقتصادى والتنمية المستدامة، يمكن الحصول عليه محليا، عبر آليات الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والتى تمثل اليوم إحدى أهم آليات التمويل فى العديد من دول العالم.
يختم الأمين العام لاتحاد المصارف العربية مشيرا إلى النجاحات المحققة فى مسار التحول الاقتصادى والمالى فى مصر الذى بدأته منذ بضع سنوات، بالاستناد إلى البيانات الصادرة عن المنظمات المالية الدولية، ويذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- تحقيق مصر أعلى نسب النمو الاقتصادى عربيا وعالميا، حيث سجلت نسبة نمو سنوى فاقت 5% خلال معظم سنوات العقد الماضى. ومن المتوقع أن يبلغ متوسط النمو السنوى نسبة 5.4% خلال السنوات الخمس القادمة.
- زيادة حجم الناتج المحلى الإجمالى لمصر بنسبة فاقت 40% خلال العقد الماضى، ليصل حجم الاقتصاد المصرى إلى 460 مليار دولار بنهاية عام 2022. ومن المتوقع أن يفوق حجم الناتج المحلى الإجمالى لمصر 650 مليار دولار خلال السنوات الخمس القادمة.
- زيادة الدخل الفردى للمواطن المصرى بشكل كبير، بحيث ارتفعت حصته من الناتج المحلى الإجمالى من 3828 دولارا عام 2015 إلى 4504 دولارات بنهاية عام 2022، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 5775 دولارا خلال السنوات الخمس القادمة، على الرغم من الزيادة المستمرة فى عدد السكان.
ويختم أيضا أن مصر لم تشهد أزمة مصرفية، ولا حتى تعثر بنك واحد، حتى فى ظل الضغوط الاقتصادية الكلية والمالية العامة، بسبب السياسات الاحترازية الكلية والإجراءات الرقابية للبنك المركزى المصرى. وفى ظل ذلك، بلغ حجم القطاع المصرفى المصرى قرابة نصف تريليون دولار، بحسب بيانات شهر نوفمبر 2022.